المهندس. يحيى حسين عبد الهادي يكتب: فى ذكرى رجلٍ عظيم

رأي

لم أُقَّبِلْ يدَ أحدٍ بعد والدى إلا اثنين .. الدكتور عبد الوهاب المسيرى والدكتور رشدى سعيد .. حديثى اليوم عن عبد الوهاب المسيرى فى ذكراه العاشرة .. أَمَّا العالم الوطنى الفذ (والمُضطَهَد) رشدى سعيد فقد أتناوله فى مقالٍ ومقامٍ آخر.

كان المسيرى ترجمةً عمليةً لمقولة (إن الفارق بين المُتعلم والمثقف هو الموقف)، فليس كُلُ متعلمٍ (مهما نال من شهاداتٍ أكاديميةٍ) مثقفاً .. ما لم يكن صاحبَ موقفٍ من السلطة إجمالاً، ومِن الحاكم المستبد على وجه الخصوص … وقد عَدَّدَ المفكر الراحل الدكتور إدوارد سعيد فى كتابه (المثقف والسلطة)، صفات المُثَقّفَ ومنها أن (المُثقف إنسانٌ يَنهضُ بِدورٍ فى الحياة العامة فى مجتمعه، ولا يختزل نفسه فى صورةٍ مهنيةٍ أو أكاديميةٍ بلا هوية) .. و(إن المثقف الحقيقى هو القادر دائماً على قول الحقيقة للسلطة، وهو ما لن يتيح له أن يحظى بأيات التكريم الرسمى، ومن ثَمّ يجد نفسه فى عُزلة .. ولكن هذه العُزلةَ خيرٌ من الصُحبةِ التى تعنى قبول الأوضاع على ما هى عليه) .. كان إدوارد سعيد يتحدث فى المُطلق وكأنه يتحدث عن عبد الوهاب المسيرى.

أنفق المسيرى من عمره ثمانية عشر عاماً ليُخرج للبشرية موسوعته الخالدة (اليهود واليهودية والصهيونية)، وبعد أن انتهى من عمله الكبير لم يتفرغ لجَنْى الثمار وجوائز الدولة، وإنما نَزَلَ بِقامته العالية من بُرجه العاجى وذاب مع شعبه فى معاركه .. لو لم يكُن للمسيرى من إسهامٍ إلا هذه الموسوعة لَكَفَاه إسهاماً، ولكنه أبَى أن يظل فى صومعته بينما مصرُ تُنازعُ قُوى الاستبداد والفساد، فما ترك جبهةً فى هذه المعركة المقدسة إلا وكان فى صدارة مقاتليها .. كان ضمن الرعيل الأول المُنشئ لحركة 9 مارس لاستقلال الجامعات .. كما كان من أوائل النُبلاء المؤسسين للحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) .. وعندما أرادت كفايةُ أن تستظلَ به سقفاً عالياً، وافق دون ترددٍ على تكليفها له مُنَسِقاً عاماً لها (بعد انتهاء فترة منسقها الأول جورج إسحق) .. وكان ذلك بمثابةِ صفعةٍ على وجه مثقفى السلطان .. كان مَنطِقُهُ بسيطاً (إذا كنتُ متأكداً من استبداد وفساد هذا النظام .. إذن لماذا أترُكُ مُقاومَتَه لغيرى؟!) .. كان يقول ما هو مؤمنٌ به وتتسق أقواله مع أفعاله، وهو سر سعادة المرء كما قال غاندى، ولعل ذلك كان سر ابتسامته الدائمة (آخرُ كُتُبِه التى لم تكتمل بِوفاته كانت عن النُكتة المُقاوِمة).

وتَحَمّلَ بروحه العذبة وابتسامته التى تختصر روح مصر الكثير من سفالات ورذالات الصغار فى نظامٍ مبارك، وستظل صورته الشهيرة وهو فى السبعين من عمره وجحافل الأمن تكاد تسحقه وقد سقطت زوجته على الأرض، تُلَخّصُ عصراً بأكمله وتُدينُه أيضاً .. .كان يقف بيننا ويهتف ونُرددُ وراءه (سلمية .. سلمية) وعندما كان الشبابُ يتشككُ فى إمكانية سقوط هذا النظام الغاشم سلمياً كان يقول بابتسامة الواثق (إذا نزل مائةُ ألف مصرىٍ مُسالِمٍ إلى ميدان التحرير سيسقط النظام) وقد صَدَقت نُبوءتُه بعد أقل من ثلاث سنوات ..

فى السابع عشر من يناير 2008 قامت شرطة مبارك باختطاف العالِم الموسوعى السبعينى المُصاب بالسرطان الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيرى وزوجته الأستاذة الدكتورة هدى حجازى من ميدان السيدة زينب وألقت بهما فى ذلك المساء القارس البرودة فى صحراء التجمع بلا موبايلات، إلى أن التقطهما سائق مقطورة لا يعرفهما وأنزلهما عند بداية العُمران .. أُصيب المسيرى فى هذه الليلة بالتهابٍ رئوىٍ حاد قاوَمَه قَدر استطاعته إلى أن أسلم الروح بعد أقل من ستة شهور فجر الثالث من يوليو من نفس العام (أى قبل عشرة أعوام).

إن نظام مبارك (فى نسخته الرديئة) لم يَحتَفِ بقامةٍ وطنيةٍ عاليةٍ وغالية كباقى زكى يوسف لم يعمل بالسياسة ولم يكن معارضاً ذات يوم .. فلا عَجَبَ ألَّا يحتفى بالمثقف المُقاوِم عبد الوهاب المسيرى فى ذكراه العاشرة .. فلكلِ عهدٍ رموزه ومُكَّرَموه الذين يليقون به .. ولكن دَعُونا نقتبس روح المسيرى المتفائلة ونحلم بيومٍ قريبٍ تزول فيه الغَبَرَةُ عن وجه مصر وتُكَّرِمُ فيه نفسَها بتكريم المسيرى (وأمثاله من مشاعل النور) بعد أن تَبرأَ من دائِها العُضال .. رَحِمَ اللهُ المُثَقّفَ المِثالَ الطاهر النقى عبد الوهاب المسيرى .. ورَحِمَ مصرَ التى أنبتته وأَحَبّها وعَشقها.

 

(3 يوليو 2018).

 

 

Leave a Reply