ننشر مقال بسمة عبد العزيز الممنوع من النشر: المَجد لكُلّ عَر-عَر

رئيسية قضايا ساخنة ممنوع نرشح لكم

تنشر كاتب المقال الممنوع للدكتورة بسمة عبد العزيز، وقالت بسمة ، إنه تم إبلاغها بمنع مقالها هذا الأسبوع من النشر في جريدة الشروق. وعلقت بسمة عبدالعزيز على منع مقالها قائلة: “أصبح الأمر متكررًا لكني أتمنى ألا يصبح معتادًا”.

كانت بسمة قد كتبت الأسبوع الماضي أن جريدة الشروق غيرت بعض المصطلحات في مقالها “الضمير” تحت عنوان : الجديد في أحوال الرقابة في جريدة الشروق.

وأشارت بسمة إلى أن: كلمات “القيادة” و”السلطة” و”السلطة الحاكمة” تم حذفها من كامل فقرات مقالتي “الضمير”، ووضع كلمة “الحكومة” بدلًا منها، كما في الفقرة السابقة.

وإلى نص المقال:

“المَجد لكُلّ عَر-عَر”

أمام مبنى خدميّ عام، قديم الوجود، ظهر سور ذو ارتفاع متوسط، مُتواضع التصميم، فقير الخامات، لم يكُن له غرض واضح سوى ترسيم الحدود، والحفاظ على حرم المكان. انغرست في واجهته لوحةٌ مِن الرخام الأبيض اللامع، مَحفورة بأسماء مَن اقترح بناء السور، ومَن أشرف على تنفيذه، ومَن تولى تشييده، ومَن قام بافتتاحه في عهد السيد الرئيس. بلغ عدد الأسماء تسعةً أو ما يزيد، إضافة إلى أسماء كبار المسئولين في الحيّ والدولة، وكذلك اسم نائب مجلس الشعب المُختصّ بالمنطقة. صفٌّ طويلٌّ مِن الأسماء؛ بدا لي أطول مِن السور ذاته.

بسبب الإعلانات التي جاوزت مساحتها مساحة الدراما في مُعظم مُسلسلات شهر رمضان، وبسبب الملل والضيق اللذين اعتريا مشاهدتي غالبية الأعمال؛ وجدت نفسي عازفةً عن المُتابعة، مُنزعجةً مِن قضاء الوقت أمام الشاشة. رحت دون تخطيط مُسبق، أتابع البداياتِ والنهاياتِ فقط؛ فأقرأ عنوانَ المُسلسَل، وأسماءَ أصحاب البطولة؛ نساءً ورجالًا، والقائمين بالأدوار الثانوية، وضيوفِ الشرف، كما أبحث بطبيعة الحال عن أسماء المخرج والمؤلف، والمنتج أو المنتجين.

لاحظت مع مُداومتي على قراءة الأسماء وما اقترن بها مِن ألقاب ووظائف وأعمال، أنَّ الأمر أكبر مما أتصور، وأنَّ المسلسل ينتهي بقائمة أسماء لا حصر لها، تشمل على سبيل المثال؛ سائقَ الشاحنة التي ظهرت في لقطة ما، وعامل البوفيه، وحامل أسلاك الإضاءة، ونافخ إطارات سيارة المُمَثلة القديرة فلانة، وحارس حقيبة النجم فلان. عشرات الأسماء التي لا تضيف لقارئها شيئًا، ولا تصنع فارقًا بوجودها.

في كتابه البديع “كلام فارغ”، يصف الساخر الكبير أحمد رجب تلك الرغبة الحارقة في تدوين الأسماء؛ يرجعها إلى ميراث المصري القديم، الذي دأب على نقش أسماء الملوك، والحكام، والقادة، وأرباب المعارك والانتصارات، على كل حجر. هزلًا يستطرد الكاتب؛ أنَّ صاحبَ البقالة عر-عر الفرعوني، قرر ذات يوم أن ينسب لنفسه قسمًا مِن البطولات، فأغلق بقالته على العجوة والحلاوة بعد انتهاء وقت البيع، وانطلق ينقش فتوحاتِه على جبلٍ قريب، ويبدع في وصفِ أمجاده.

مئاتُ اللوحات الجرانيتية التي تنغرس في جدران المباني أو تُدَقُّ في الأرض، لا طائل فيما يبدو مِن وراءها، بل أحيانًا ما تكون قيمتها المادية أثمَن مِما تشير إليه. لوحاتٌ ضخمة مِن الحجر الثقيل، تحمل أسماءَ المُشاركين في العمل؛ لكن أحدًا لا يسأل ما العمل، وما قيمته؟ لا يهم؛ المهم هو تدوين الاسم وتخليده إن أمكَن؛ إنه أداءُ الملك عر-عر؛ خفيف الظلّ، المُحب لذاته.

لا يتوقف الأمر عند اللوحات واللافتات، فالوسائل التي تصبُّ في النهر ذاته، مُتعددة ومُتطورة. قُمت منذ فترة ليست ببعيدة، بتجديد اشتراكي في أحد النوادي التي أحمل عضويتها، ثم ذهبت أتسلم البطاقة الجديدة؛ فإذا بهيئتها قد تغيرت. اختفت مِن ظهرها صور الألعاب الرياضية المتنوعة، ورموزها الشهيرة، وحلَّت مَحلَّها صور شخصية ملونة، لأعضاء مجلس الإدارة.

تعجَّبت للتغيير، فالبطاقة على مَرّ السنوات تَبَدَّل لونُها واختلفت خطوطُها، لكنها أبدًا وعلى ما تسعفني الذاكرة؛ لم تحمل صورًا لشخص عدا صاحبها. تصورت أنني الوحيدةُ التي أدهشها هذا التصميم الحديث، لكني وجدت مثلي كثيرين؛ يعلقون على بطاقاتهم، يقلبونها بين أيديهم ويسخرون، وفهمت أنَّ الأمر قد تكرر في مُؤسَّسات أخرى عديدة، لها عضوية وبطاقات تعريف؛ تحولت هي الأخرى إلى مَعرض لصور مسئوليها وأسمائهم.

لا شكَّ في وجود مُبرر وأكثر؛ يدفع عن أصحاب الصور الأنيقة ما قد يمسَّهم مِن اتهامات؛ بل وما قد يجعل مِن صنيعهم عملًا إيجابيًا هادفًا، يصبُّ في مصلحة عامة الناس. أستطيع أن أعدد الردود المُتوقعة، وأن أزيد فيها وأستفيض؛ أن أقول مثلًا إنَّ الصورَ والأسماءَ على البطاقات ليست إعلانًا مجانيًا لمجلس الإدارة ورئيسه، بل خدمة للأعضاء تُمكّنهم مِن التعرف على المسئولين وعرض شكاواهم. يستطيع القراءُ والزملاءُ والأصدقاءُ والصديقاتُ، أن يضعوا هم أيضًا قائمةً طويلةً بالتفسيرات، لكن هذا كله، لن يغير مِن واقع الأمر شيئًا؛ فنحن مولعون بذواتِنا وعظمتِها، وولعنا يعكس في العادة النقيضَ.

عَر-عَر دائمُ الوجود، يظهر بكثافة حين تواتيه الظروفُ، يمارس هوايتَه الأثيرة، يوهمنا بأن ما في دكانه مِن بسطرمة وحلاوة وجبن رومي؛ يرقى إلى مرتبة الإنجاز العظيم، في حين لا يملك سوى بقالة عادية، يملك الآخرون مِثلها وربما أفضل منها. لا إبهار في حملِها على الأرفف، ولا مُعجزة في تقديمها للناس، وبكُل تأكيد؛ لا يستحقُّ عنها عَر-عَر الاحتفاء أو التخليد.

Leave a Reply