المهندس. يحيى حسين عبد الهادي يكتب: عذاباتٌ مستترة.. عن الاعتقال ومصادرة الأموال ومعاناة الأسر والضحايا

رأي

طوبى لكل محامٍ أو كاتبٍ أو سياسىٍ تَسامَى على مشاعره الشخصية وانحيازاته المذهبية وانتفض يدافع بالروب أو القلم عن خصمِه السياسي فى محنته، مؤمناً بأن دوره أن يتصدى لتغييب دولة القانون أيَّاً كان انتماء الضحايا .. بالطبع فإننا نقصد دولة القانون الحقيقى .. الذى تنتهى إليه مناقشاتٌ حقيقية، بين نواب حقيقيين، فى برلمانٍ حقيقىٍ، منتخبٍ انتخاباً حقيقياً، ويصادق على نشره فى الجريدة الرسمية رئيسٌ حقيقىٌ، منتخبٌ فى انتخاباتٍ حقيقيةٍ ضمن متنافسين حقيقيين .. أما غير ذلك فلا يُعًّد قانوناً وإنما خرقةٌ باليةٌ، مكانها الطبيعي سلة القمامة مع الترزية الذين فَصَّلُوها وتعاملوا بها

للأسف، يتعامل معظمنا مع حالات انتهاك القانون على أنها مجرد أرقام .. يأسف لها البعض ثم ينسونها فى زحمة الحياة .. ويُهلل لها البعض أو على الأقل لا يكترثون بها طالما أصابت خصومهم ولَم تَمَس فصيلهم أو تيارهم .. وعلى عكس ما ذهب إليه شوقى (إن المصائب يَجمعن المُصابينا) فإن المصائب التى يَصُبُهَا النظام على المصريين كافةً، تزيد بعضَهم فُرقةً وتكون شرارةً لاجترار معارك من عينة (تستحقون) و(أنتم السبب) أو(يا عبيد البيادة) و(يا عبيد المرشد) .. إلى آخر ثنائيات الغباء التى لا تنتهى .. وهى أسئلةٌ مشروعةٌ ومطلوبةٌ إذا سُئلت بغرض المصارحة لا المكايدة .. وفى توقيتٍ آخر غير هذه اللحظة حيث الكل منسحقٌ تحت بحذاءٍ واحدٍ يسحق الجميع بلا تفرقة..

أضف إلى ذلك أن كل ما نراه من إجرامٍ ليس إلا العناوين.. فنحن لا نرى إلا العذابات الواضحة التى تطال رب الأسرة من إعدامٍ أو حبسٍ أو تنكيلٍ إلى آخر ما فى جعبة الزبانية.. لكن خلف جدران بيوت هؤلاء الضحايا عذاباتٍ مستترةً لا نحس بها ويتعفف أصحابها من البوح بها.. عذاباتٌ لا تبدأ بمعوقات الزيارة وآلام الفراق.. ولا تنتهى بزيجة البنت أو فسخ خطبتها فى غيبة السند.. أو ملاطمة الحياة فى وجه دولةٍ لاتعتبرهم أصلاً من رعاياها.

قال لى محامى الموظف الجليل المغضوب عليه (هل تعرف من أين يعيش الرجل؟).. بدا السؤال مباغتاً فأجبته (لا أعرف ولَم يفكر أحدٌ منا فى ذلك الموضوع من قبل .. كل همنا هو التأييد المعنوى والقانوني).. قال المحامى متأثراً (سأُسِّرُ لك بما فضفض لى به مضطراً ذات مرة .. الرجل بلا دخل .. فقد توقف معاشه .. ولَم يصرف مكافأة نهاية الخدمة على رأس الجهاز الرقابى الكبير.. واستنزفت الكفالات التى دفعها فى وجه البلاغات الكيدية كل مدخراته.. تعيش الأسرة بما تبقى من نصيب الزوجة فى ميراثها).. هذا رجلٌ لم تُصادَر أمواله.. فما بالُنا بغيره ممن صودرت أموالهم وأموال ذريتهم.

قبل شهرين كان صاحبنا يداعب الدكتور يحيا (هكذا اسمه الرسمي) القزاز قائلاً (نحن بالذات فى مأمنٍ من المصادرة والتحفظ .. فالحياء يمنع النظام من ذلك .. إذ ليس لدينا ما يمكن مصادرته وليس لدينا “هذا” الذى نُسألُ من أين اكتسبناه .. فأحدنا يسكن فى عزبة النخل .. والآخر لا يملك إلا شقة الإسكان المتوسط التى يسكنها) .. فتدخل صديقٌ ثالثٌ قائلاً (لا تركنوا إلى حياء النظام فإنه بلا حياء) .. قبل أسبوعين تم اعتقال د.يحيا القزاز .. وبالأمس صدر قرارٌ بالتحفظ على أموال ذلك الأستاذ الجامعى الشريف النظيف ومنقولاته (أى عفش بيته) .. ومعه وقبله وبعده لا تتوقف المصادرات .. وتتفاقم خلف جدران البيوتات الكريمة أنَّاتُ العذابات المستترة .. ونقف عاجزين إلا عن الدعاء.

فى نهايات عهد مبارك كان فى استطاعتنا أن ننشئ فيما بيننا صندوقاً (غير قانونىٍ وغير سرىٍ) لمساعدة الشرفاء الذين يُستدرجون لقضايا سب وقذف بحق السادة اللصوص.. لم يعد ذلك ممكناً الآن للأسف.. بعد أن تصالح النظامُ مع حلفائه من أصحاب المعالى اللصوص وأعادهم للصدارة.. بينما بعض الذين أسهموا ذات يومٍ فى هذا الصندوق يحاسَبون الآن على شرفهم وقد صودرت أموالهم.. مَن الذى يَجْردُ ثروةَ مَن؟ ..

أُوقن أن الحالَ لن يستمر هكذا.. ستشفى مصر حتمًا من هذا البلاء .. إما بجيلٍ خالٍ من أمراضنا ومعاركنا العبثية .. أو بأَنَّةَ مظلومٍ .. أو دمعة مقهورٍ .. تتجاوز عجزنا وتخترق الحُجُب إلى عنان السماء

.. أليس من بيننا مَن يُستجابُ دعاؤه؟

Leave a Reply