كارم يحيى يكتب: أخشى على جمال خاشقجي.. من مصير رضا هلال

رأي رئيسية قضايا ساخنة

 لم تكن تروقني مقالات جمال خاشقجي في جريدة “الحياة” السعودية التي تصدر من لندن.وهي صحيفة على قيمتها الصحفية اعتقد انها لاتصمد كثيرا أمام اختبار حيلة اصطناع ” ليبرالية سعودية ومهنية ممولة من الملوك والأمراء الوهابيين “.  وبالنسبة لي كان قلم الرجل الأقل جاذبية ومصداقية بين كوكبة كتابها على مدى سنوات . كما لم يكن يروقني مطلقا ما يكتبه زميلي في “الأهرام” رضا هلال، وكذا ما يفعله في المهنة والنقابة لحساب سلطة مبارك المدعومة أمريكيا وخليجيا واسرائيليا .لكن وجدتني مع اختفائه او بالأدق اخفائه من قلب القاهرة أغسطس 2003 ـ اي قبل اكثر من خمسة عشر عاما ـ أشعر بحزن. بل وبغصة لا يداويها مرور السنون. ليس فقط لأن انسانا وصحفيا ما ـ وإن كنت أعرفه تزاملنا وتفاعلنا واختلفنا ـ جرى اخفاؤه .أو لأن سلطات دولة مسئولة عن هذا المصير تصرفت على نحو يستهين بحق الحياة .وأيضا بسلامة صحفي وبقيمة ما يفترض من سعي للحقيقة .وهذا على أقل تقدير اذا ما تجاوزنا عن القول بأنها هي الجهة التي قامت بالاخفاء والتخلص منه . بل والأخطر والأقسى على النفس أن قلب الغصة يظل في  تبلد زملائه المقربين والخلصاء وادارة الصحيفة التي عملنا بها .

 في تلك الأيام التالية مباشرة لاختفاء أو بالأحرى اخفاء “الزميل رضا ” داهمني شعور بالعار.و ما زال والى  الحين. شعور  ممزوج برائحة عطن . واخالني حينها توصلت الى ارتباط مبهم  بين زيادة تبريد المكيف المركزي بمبنى “الأهرام” العملاق بوسط القاهرة الى درجات دنيا تدفع للقشعريرة وبين توهم كون جثه رضا هلال مخبأة هنا أيضا خلف أحد الجدران او الأبواب أوفي المخازن أو بين دفاتر أوراق .وكذا بأن المتورطين في لعبة الاخفاء الدموية القذرة من داخل الوسط الصحفي يقاومون بالصمت والتواطؤ وأيضا بتأليف الروايات الخيالية غير الموثقة او الموثوقة عن قصة غرام حرام مع سيدة متزوجة او ما أشبه انفجار رائحة الجثة في المكان كـ ” فضيحة ” لنظام سياسي عفن و لصحافة ومهنة ونقابة وزملاء أصابهم بدورهم هذا العفن الى النخاع .فالأفضل حالا بينهم التزموا الصمت ولم يختبروا ويحققوا بما لديهم من أدوات عمل مهني ونفوذ تسمح به مناصبهم العليا في المؤسسة الصحفية الأكبر والأهم في مصر وربما الشرق الأوسط افتراضات أكثر خطورة وجدية كانت متداولة عن صلة نجل الرئيس جمال مبارك بهذا الاخفاء .أو ما رواه في الإبان بعض من جرءوا من خارج الوسط الصحفي ـ ولا اقول الجماعة الصحفية او زملاء المهنة ـ عن انفلات لسان الضحية ـ ومن موقع اعلامييي السلطة و رجال الرئيس وعائلته وأبنه ـ بما لايروق في جلسة خاصة .

بعد نحو أربع سنوات من اخفاء “رضا هلال” .جاء التونسي كمال العبيدي و الايطالي كمبانا الى القاهرة والى الأهرام .و يحفظ لنا تحقيق للجنة الدولية لحماية الصحفيين بعنوان ” الرجل المنسي ” لم تجرؤ على الاقدام عليه لانقابة الصحفيين المصرية ولا اتحاد الصحفيين العرب بهذه العبارة التي استعدتها مع مرور يوم بعد اخر على اخفاء الزميل جمال خاشقجي :

” مما يثير الحيرة ، هو صمت زملائه، الذين تجاهلوا محنته خلال السنوات الأربع الأخيرة.وقد يكون الدافع وراء ذلك الآراء غير الشعبية التي كان يعبر عنها هلال والمؤيدة للسياسة الأمريكية ، ودعمه للعلاقات مع إسرائيل، وكذلك الخوف إلى حد ما. أما صحيفة “الأهرام” التي كان يعمل بها هلال، والتي تعتبر من أكبر وأشهر الصحف في العالم العربي، فلم تنشر عنه سوى النزر اليسير خلال ثلاث سنوات. إن هلال رجل منسي في مصر وفي المنطقة بصفة عامة”. ومع استعادة قراءة هذا التحقيق الدولي اليوم في سياق اخفاء جمال خاشقجي يحفر كاتباه عميقا على هذا النحو الذي يقبض على حقائق يصعب دفنها او اخفائها كجثث البشر في منطقتنا العربية :”لم يستجب رئيس تحرير صحيفة (الأهرام)، أسامة سرايا، لطلبات متكررة من لجنة حماية الصحفيين لعقد مقابلة معه. وفي بدايات شهر سبتمبر (أيلول)، أبلغت سكرتاريا صحيفة (الأهرام) لجنة حماية الصحفيين إن أسامة سرايا مستعد للتعليق على القضية، ولكنه لم يرد على أسئلة لجنة حماية الصحفيين التي أرسلتها لاحقا بوساطة البريد الالكتروني “(*) .

بعد مضي خمسة ايام على اخفاء جمال خاشقجي إثر دخوله مقر القنصلية السعودية في اسطنبول ، أجدني اخشي على زميلي وعلى هذا الانسان وهذه الروح البشرية من مصير مشابه لرضا هلال . وأكاد ابصر ـ وانا تداهمني بقوة رائحة عطن مجددا ـ دوامات النسيان تبتلع الضحية الجديدة يوما بعد يوم و سنة بعد سنة دون ان يظهر للجثمان أثر.و تماما كما في الحالة المصرية . اكتب هذه السطور قبيل ساعات معدودة من كلمة منتظرة من الرئيس التركي ” أردوغان ” عن جمال خاشقجي . لكن من عاشوا تجربة رضا هلال ومن يبصرون واقع المنطقة وحالة الصحافة والصحفيين في تركيا و الاعيب المساومات بين الأنظمة اقليمية ودولية كبرى وصغري من حقهم ان يذهبوا الى ان الزميل جمال كالزميل رضا لن يعود أبدا. فالنظام التركي بدوره كالمصري والسعودي لا يمكنه ان يدعي احتراما للصحافة أوالصحفيين .وقد سود صفحته في سجل انتهاك حرية الصحافة وهو الأسوأ في حبس الصحفيين الأتراك موغلا بقليل خطوات عن النظام المصري .  ولعل ما اتوقع في افضل الأحوال أن نظام  السيد اردوغان قد يتفضل ببعض احراج تجاه نظام آل سعود قبل ان يسود التغاضي والصمت .

وحقيقة أيضا لا يمكن أن اراهن على شئ ذي بال او قيمة مؤثرة في مصير جمال خاشقجي .بل ما يتصدر هو رهان المستبدين القتلة والمتواطئين معهم اليوم وبالأمس ومستقبلا على “دوامات النسيان “. وكذا على رفع درجات التبريد في أروقة الصحف السعودية والممولة سعوديا كما حدث في القاهرة .فرائحة العطن تملأ المنطقة وتمتد الى البيت الأبيض.  وقد يصبح الزميل خاشقجي محظوظا بعض الشئ بأن يجد ” العبيدي” و “كمبانا ” آخرين . وحقيقة وعلى ضوء ماعايشت في تجربة الزميل رضا هلال الأليمة ، لا أنتظر كصحفي يعيش في هذه المنطقة  ويكتب عنها لا تحقيقا من نقابة أو جمعية صحفيين سعودية أو من اتحاد الصحفيين العرب أو ما اشبه .فهذه كلها اشباه نقابات واتحادات مسوخ منزوعة الاستقلالية والولاء لقيم الصحافة خالية من المروءة وحقوق الزمالة.. ولا أقول التضامن بين أهل المهنة . وحتى صحف كالحياة والوطن السعوديتين ـ اللتان كتب بهما آخر ضحايا الصحفيين العرب من الاخفاء القسري ـ لا أفكر في تصفحها على شبكة الانترنت . وليس عندي قلامة فضول لأعرف ماذا نشروا عن هذا القلم وتلك النفس التي كانت معهم وبينهم وعلى صفحاتهم ؟.لا فضول بأي حال عن كيف كتب اصدقاؤه وزملاؤه الأقربون عنه وعن اخفائه ؟ وهل اختلق البعض منهم و بدورهم قصصا خيالية تبرر ان الرجل لن يظهر بعد الساعة أبدا وتزيح الشبهة عن السلطات والأجهزة وتبرئها ؟

فقط هي رائحة العطن الممزوج بالعفن تعود بقوة لتغمر إعلام الانظمة والمال.

فقط وأنا ونحن معا في هذا الضعف الانساني ـ وأكرر الانساني المحض وحسب ـ أقول :

زميلي رضا هلال الذي عرفت يرحمك الله

و زميلي جمال خاشقجي الذي لم نلتق أبدا يرحمك الله .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) رابط نص التقرير وكنت للاسف الوحيد في الاهرام الذي تحدثت في سياقة وباسمي مع انني ظللت لسنوات مختلفا مع الزميل رضا هلال بل شديد الاختلاف معه افكارا وسلوكا .ولقد حرصت على أن تجري مقابلة الزميل كمبانا بمكتبي المتواضع بالجريدة،وكأنني اتحدى رائحة العطن  :

https://cpj.org/forgottenman/forgottenman_ar/forgottenman_ar.html

كارم يحيى

كاتب صحفي مصري

Leave a Reply