لن تخرج مصر من أزمتها وكبوتها ولعنتها لو ظلت رهينة المحبسين .
ورضخت لأن تكون كالكرة ، تتأرجح وتتلقى الضربات بين طرفين يبدو أنهما متصارعان ، بينما هما في الحقيقة متواطئان .
طرفان يدل تاريخهما على أن الشعب لا يدخل في حساباتهما ، وإنما غايتهما الوحيدة هي السلطة ، ومعركتهما التليدة تتمثل في أي منهما الأحق بهذه السلطة .
تبحث مصر عن خلطة الحكم الديمقراطي التي تؤسس لقواعد العدالة الاجتماعية ومبادئ الحقوق والحريات وضوابط المحاسبة والشفافية .
ولكن منذ يوليه ٥٢ كانت كل خلطات الحكم التي كابدها المصريون عديمة الصلاحية .
كان الاعتقاد السائد لدى غير المتخصصين حتى انطلاق ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ بأن دولة يوليه ٥٢ هي دولة المتعسكرين .
ولكن الثورة رفعت الحجاب وأسقطت القناع ، وتبين من تحليل التحالفات والتفاهمات والمؤامرات والدسائس والخداعات التي تم صرفها في ماء النهر على مدى الأسابيع والشهور التالية للثورة ؛ وربطها بما تم قبلها على مدى ٥٩ عاماً .. تبين من كل ذلك أن دولة يوليه ٥٢ لها جناحان : جناح المتعسكرين ، وجناح المتأسلمين .
بدأت إرهاصات دولة يوليه ٥٢ مع انطلاق حرب العرب مع إسرائيل بفلسطين عام ٤٨ .
فقد بدأ التحالف بين جناح المتعسكرين وجناح المتأسلمين خلال تلك الحرب ، وتلقيا معاً صفعة ومرارة الهزيمة القاسية . وكرد فعل دفاعي لعدم الاستسلام لمرارة الهزيمة ، كان ينبغي تحميل أوزار الهزيمة للسلطة ” الملكية “ القائمة والإعداد للانقضاض عليها وإقصائها .
ومنذ ذلك الوقت ، استقرت بذرة دولة يوليه ٥٢ في التربة المصرية . وكان كل طرف من طرفيها في حاجة للآخر . فالمتعسكرون يمتلكون البندقية والدبابة وخطة احتلال الإذاعة ، والمتأسلمون يمتلكون الشوارع والمقاهي وقدرة اعتلاء منابر المساجد . كان إقصاء السلطة الملكية يحتاج لقوة عسكرية بيد المتعسكرين واحتشاد شعبي بيد المتأسلمين .. وهكذا مدت البذرة جذورها واخترقت التراب بساقها وأوراقها في صبيحة يوم ٢٣ يوليه ١٩٥٢ .
ظهرت دولة يوليه إلى الوجود بجناح ظاهر في العلن هو : جناح المتعسكرين ، وجناح قابع في الظل هو : جناح المتأسلمين .
ومنذ ذلك الحين ، يحاول جناح الظل الخروج للعلن بالعمل الدعوي كستار للتغلغل السياسي ، أو بالعمل المسلح لنسف الانسداد والقمع السياسي . بينما يداوم جناح العلن على احتواء جناح الظل أو محاصرته أو مطاردته . وكانت دائماً أدوات الطرفين في هذا الصراع هي : الصفقات أو التفاهمات أو المساومات أو المؤامرات أو التصادمات الدموية ، تنكيلاً وإعداماً .. أو اغتيالاً وإرهاباً .
توضح العهود المتتالية لدولة يوليه ٥٢ تلك الديمومة لهذا التحالف الصراعي بين الكاب والجلباب .. عهد نجيب ثم ناصر ثم السادات ثم مبارك ثم المجلس العسكري ثم مرسي ثم السيسي .
ولذلك .. لم تعد هناك جدوى من تعداد البراهين التي تثبت العلاقة بين تنظيم الضباط الأحرار وجماعة الإخوان . فلقد أصبح الأمر مكشوفاً للعيان وامتد خارج المذكرات والمراجع التاريخية والسياسية ليصل إلى المسلسلات الدارمية على القنوات الفضائية . ولعل الجزء الثاني من مسلسل الجماعة يؤرخ لتلك العلاقة ، رغم كل التحفظات التاريخية من المتأسلمين والمتعسكرين على حدٍ سواء .
لا نفتأت على دولة يوليه ٥٢ عندما نؤكد بأن جناحها القابع في الظل هو جناح المتأسلمين ، لأن واقع حالها يؤكد بأنها لم تفتح الطريق لأي جناح مدني لكي يحل محل جناح المتأسلمين ، بل كانت دوماً تمارس الإضعاف والتشتيت لأي فصيل مدني يبرز على الساحة ، وما كانت أي مبادرة – لنظام يوليه ٥٢ – لفتح حارات هامشية ضيقة للتيار المدني ، إلا من أجل التحايل على الضغوط الخارجية التي تطالب بالمزيد من التحولات الديمقراطية . ورغم ذلك ما كانت تخلو هذه الحارات الضيقة من العيون والأذرع الأمنية لزرع الفتن وشق الصفوف .
فقد دأبت دولة يوليه ٥٢ على استخدام جناح المتأسلمين لضرب التيار المدني اليساري منه أو الليبرالي . ولكنها لم تستخدم أبداً التيار المدني بيساره أو يمينه لضرب فصيل من فصائل المتأسلمين ؛ إلا وهي تضع يدها في الخفاء مع فصيل متأسلم منافس لتظل فزاعة المتأسلمين حاضرة ؛ من خلال سياسة خبيثة تجسمت بالخصوص في عهد مبارك ؛ وتمثلت في ضرب فصائل المتأسلمين بعضهم ببعض .
وجدت دولة يوليه ٥٢ في التيار السلفي غايتها المنشودة ، ففتحت له المساجد والزوايا ، وغضت الطرف عن جمعياته الخيرية أو الدعوية ، وكل ذلك كي لا يتم ترك الساحة المجتمعية الدعوية لفصيل الإخوان منفرداً . ولعل الأيام السابقة لاستفتاء ١٩ مارس ٢٠١١ عقب ثورة يناير توضح بأن ذلك البروز المفاجئ لتيار السلفيين على الساحة السياسية كان مستنداً على قاعدة متراكمة ومستقرة ، لذلك سرعان ما امتلأت جدران الشوارع المصرية بلافتات على غرار : الشريعة خط أحمر ، والمادة الثانية في الدستور خط أحمر . فقد تم إعطاء الضوء الأخضر للسلفيين من رعاتهم ومروضيهم في الدوائر السلطوية للنزول للساحة وعدم تركها خالية للإخوان المسلمين .
ولهذا لم تكن علاقات المجلس العسكري بائتلاف شباب الثورة في غضون أحداث ثورة ٢٥ يناير إلا من باب إرضاء عواطف الجماهير ، وخلق الانطباع بوقوف المجلس مع أهداف الثورة . بينما في الغرف المغلقة كانت تتم التسويات والمفاوضات والمساومات بين الطرفين : طرف المتعسكرين وطرف المتأسلمين .
كان المتعسكرون يقدمون البسمة والتحية العسكرية لشباب الثورة وشهدائها ، بينما يدهم اليمنى في يد الإخوان ويدهم اليسرى في يد السلفيين .
ولكن السؤال الاستفهامي الاستنكاري الذي يطرح نفسه هو : كيف يمكن لدولة أن تستمد وجودها من طرفين متصارعين متباغضين ؟!!!
والإجابة وبكل بساطة تتمثل في العلاقة بين المرض والدواء ، فكل منهما نقيض للآخر ، ولكن لو غاب أحدهما فلا مجال لوجود الآخر . الطرفان يتصارعان في ظل علاقة تكاملية تضمن الحفاظ على كليهما بما يكفل دوام هذا الصراع . فلو تم القضاء على المرض لانتفى الغرض من وجود الدواء ، ولو اختفى الدواء لماتت كل الموجودات التي يستهدفها المرض .
وهكذا هي العلاقة بين المتعسكرين والمتأسلمين ؛ فكل طرف منهما يرى نفسه الدواء بينما يرى الطرف الآخر باعتباره المرض . ولذلك كل منهما يريد فقط إضعاف الآخر دون القضاء عليه لاستخدامه كفزاعة مزمنة .
ولكن ، لعل مصطلح دولة يوليه ٥٢ قد لا يبدو دقيقاً من الناحية الاصطلاحية ، باعتبار أن ما أفرزته ٢٣ يوليه هو مجرد نظام للحكم ، يمثل جزءاً فقط من الدولة التي هي بحكم التعريف السياسي تتكون من : شعب ، وأرض ، ونظام .
ولكن رغم عدم دقة المصطلح من الناحية النظرية ، إلا أنه يبدو صائباً ودقيقاً من الناحية العملية ، وذلك لأن الحدود الفاصلة بين الدولة والنظام تذوب في ظل النظم الاستبدادية التي تتضخم وتتغول لتبتلع بداخلها كل السلطات والأركان التي تتكون منها الدولة ، لتنطبق عليها المقولة الأشهر لملك فرنسا لويس الرابع عشر : أنا الدولة والدولة أنا .
فشلت دولة يوليه ٥٢ في كل تحدياتها .. عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وتعليمياً وصحياً وصناعياً وزراعياً وإقليمياً ودولياً ، وبالطبع فشلت قبل كل ذلك .. ديمقراطياً .
٦٦ عاماً من الفشل المستمر ، وقمع الحريات ، ووأد الحقوق ، وتبديد الموارد واهدار الثروات ، والتفريط في الأرض ، وإفقار الناس ، وإفساد الذمم والأخلاق .
ولكن الاعتراف بهذا الفشل تقيده سلاسل من النكران تفتقر إلى البرهان ، نتيجة عاطفة الربط بين جمال عبد الناصر ودولة يوليه ٥٢ باعتباره حامل لوائها والنجم الساطع بين رموزها .
ولكن سواء كان هذا الربط منطقياً أو حتى عاطفياً .
فإن مصر تظل حجة على عبد الناصر .
ولا ينبغي أبداً لعبد الناصر أن يكون حجة على مصر .
من كان يحب عبد الناصر ، فإن عبد الناصر قد مات سياسياً عام ١٩٦٧ وشيعت جنازته جماهيرياً عام ١٩٧٠ .
ومن كان يحب مصر ، فإنها مازالت حية ولازلنا نجاهد كي لا تموت .
أرجوكم اخلعوا أرديتكم الأيدلوجية البالية ، واسمحوا لمصر أن ترتدي ثوباً جديداً يليق بموقعها وتاريخها وشعبها .
فلقد استنفذت دولة يوليه ٥٢ كل قدراتها ، ونالت كل فرصها . ويبدو حكم السيسي النقطة الأخيرة في منحنى صعودها ، والنقطة الأولى في منحنى هبوطها إيذاناً بسقوطها .
لذلك لن تظل مصر بأرضها وشعبها أسيرة لنظام حكم المتعسكرين المدجج بالبندقية والدبابة . أو رهينة لفزاعة نظام حكم المتأسلمين الملغم بالحزام الناسف والمولوتوف .
فشل الكاب في القيام حتى بوظيفته الحصرية وهي : الحماية ، حماية الأرض .
وفشل الجلباب في الحفاظ على رسالته الدعوية وهي : حفظ الدين .
ذلك أن تداخُل الحكم مع الحماية يعسكر الحكم ويشتت جهود الحماية .
واختلاط الدين بالسياسة يؤلِّه الساسة ويدنس طهارة الدين .
لذلك ينبغي على المصريبن أن يمتلكوا الوعي بضرورة رحيل دولة يوليه ٥٢ بجناحيها : الكاب والجلباب . فقد امتلك المصريون في ٢٥ يناير الإرادة لإسقاط نظام مبارك ، ولكنهم لم يمتلكوا الوعي بأن مبارك مجرد ظل لدولة يوليه ٥٢ . لذلك ما أن سقطت كرة السلطة حتى بدأ الصراع عليها بين الكاب والجلباب ، فاستلمها الكاب انتقالياً ، ليحوزها الجلباب انتخابياً ، ليستردها الكاب في انقلاباً شعبياً ، لتستمر دولة يوليه ٥٢ قائمة على طرفيها ، ومنتجها الوحيد : الضجيج بلا طحين .
لذلك آن الأوان لدولة يوليه ٥٢ أن ترحل بجناحيها غير مأسوف عليها . فمن حق مصر وشعبها الانتقال نحو الدولة المدنية الديمقراطية التي تهجر منهج الصراع والاقتتال على السلطة ، وتؤسس لمنهج المنافسة على ثقة الشعب واختياراته ومطالبه وطموحاته .
قانون الكماشة الأول يؤكد بأن طرفيها يدوران في اتجاهين متعاكسين حول محورها . وقانونها الثاني يحتم بأن يتباعد طرفاها ثم يتقاربان لإحكام القبضة حول الضحية .
محور الكماشة المصرية هو السلطة . وطرفاها أحدهما الكاب والآخر الجلباب . أما الشعب المصري فهو .. الضحية !!
المباراة بين الكاب والجلباب لا معنى للنتيجة فيها لأنها مباراة مستمرة ، يتصارع فيها الفريقان بالعمائم والبيادات على كرة السلطة ، والشعب محصور في المدرجات إما بقوة الأسلحة النارية أو بأس السلطة الروحية ؛ ليتابع الهجمات والهجمات المرتدة وضربات الجزاء والضربات الركنية في المباراة الهزلية بين كل من : الديكتاتورية العسكرية ، والديكتاتورية الدينية .
*****
– لينك : هدى عبد الناصر : أبويا كان صديق حسن البنا وكان بيدرب الإخوان على الأعمال الفدائية ضد الإنجليز
https://youtu.be/C5XgXJrvfcs
– هدى عبد الناصر : والدي زار حسن البنا في قبره
https://www.dostor.org/394654
– لينك : جمال عبد الناصر أثناء زيارته لقبر حسن البنا
https://youtu.be/ezvgxXoMeik
– لينك : فاتحة عبد الناصر على قبر الإخوان
http://www.elyomnew.com/news/inside/2015/09/28/34618
– لينك : شريط نادر يجمع نجيب وناصر والسادات على قبر حسن البنا .. عبدالناصر : ” أشهد الله على تنفيذ مبادئه والجهاد في سبيلها ” .
ملحوظة : أصبح هذا اللينك غير متاح على موقع العربية نت .
https://www.alarabiya.net/articles/2008/12/04/61396.html
– لينك بديل منسوخ من لينك العربية نت قبل حذفه :
http://www.coptichistory.org/new_page_6901.htm
*****