حلل الخبير الاقتصادي أحمد السيد النجار الرئيس السابق لمجلس إدارة الأهرام، أزمة الليرة التركية في تدوينة مطولة على صفحته على فيسبوك .. متسائلا عن الأسباب الحقيقية لانهيار الليرة التركية وهل هي بسبب الحرب الاقتصادية ضد تركيا، والإجراءات الأمريكية، كما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أم أنها نتيجة منطقية للسياسات الاقتصادية واختلال الموازين الخارجية لتركيا؟
وإلى نص المقال :
برر الرئيس التركي التدهور الكبير لسعر صرف الليرة التركية أمام الدولار والعملات الحرة الرئيسية بالحرب الاقتصادية ضد بلاده. وبغض النظر عن سخف ترامب وإجراءاته الجمركية العدائية ضد تركيا ودول أخرى والتي تتناقض مع ضغوط الولايات المتحدة على الدول النامية لتحرير التجارة الخارجية، فإن الحقيقة هي أن تدهور الليرة التركية نتيجة منطقية لاختلال الموازين الخارجية لتركيا حيث يدور عجز الميزان التجاري التركي حول مستوى 85 مليار دولار سنويا. كما ارتفع عجز ميزان الحساب الجاري (الحساب الجاري هو محصلة تجارة السلع والخدمات والتحويلات) من 3,8% من الناتج المحلي الإجمالي التركي الذي بلغ نحو 863,7 مليار دولار عام 2016، إلى نحو 5,5% من الناتج عام 2017، وسوف يبلغ نحو 5,4% من الناتج عام 2018. وتفاقمت الديون الخارجية وزادت عن 400 مليار دولار، ومنها نحو 102 مليار دولار ديون قصيرة الأجل، ومدفوعات خدمتها وبخاصة الديون قصيرة الأجل تشكل عبئا ثقيلا، إضافة لضعف الطلب الفعال في الداخل نتيجة سوء توزيع الدخل حيث تعد تركيا بين أسوأ دول العالم في هذا الصدد. وتشير بيانات تقرير الثروات العالمي إلى أن أغنى 10% من السكان في تركيا يستحوذون على 77,7% من الثروة التركية، وهي تصنف ضمن اسوأ دول العالم في توزيع الدخل. وتشير بيانات البنك الدولي المأخوذة من بيانات رسمية تركية إلى أن نصيب أفقر 10% من سكان تركيا من الدخل بلغ 2,2% فقط. وبلغ نصيب أفقر 40% من الأتراك نحو 16,3% من الدخل. وفي ظل التعويم الكامل لليرة التركية فإنها أصبحت تحت رحمة المضاربين، وفي ظل الظروف المالية المذكورة آنفا والتي تشكل ضغطا هائلا عليها وتفتح باب المضاربات التي هوت بها من حالق.
وقد كتبت منذ عامين أن كل عناصر انفجار الأزمة المالية في تركيا موجودة وأن الأزمة قادمة لا محالة عندما تتراجع إيرادات النقد الأجنبي لأي سبب ولا تتوفر لتركيا فرصة تعويض التراجع بالمزيد من الاستدانة. ومن المؤكد أن التوترات في العلاقات الأوروبية-التركية قد أثرت سلبيا في إيرادات السياحة في بلد يزوره نحو 38 مليون سائح سنويا. كما أن الصادرات التركية من الألومنيوم والصلب للولايات المتحدة ستتأثر سلبيا بسبب مضاعفة الرسوم الجمركية عليها. كما تأثر رصيد النقد الأجنبي لدى تركيا بصورة سلبية بسبب النفقات الباهظة للحملة العسكرية التركية في سورية، وما يرتبط بها من نفات كبيرة لرعاية المجموعات الإرهابية التي تعتمد عليها تركيا في تدخلها العسكري في سورية، خاصة بعد توقف الدعم السعودي لدى إدراك مملكة عائلة سعود أنها خسرت حربها في سورية، وبعد خلافها مع قطر وهي شريكتها في دعم المجموعات الإرهابية في سورية.
وقد جاء قرار الرئيس التركي باستبعاد الدولار واستخدام العملات المحلية في التبادلات التجارية مع الصين وروسيا وإيران منقوصا ولا يمكن أن تكون له أي فعالية إلا لو ثبتت تركيا عملتها أو حصرت حركتها في مدى 2% أعلى أو أقل من سعر أساسي حتى يمكن للدول المذكورة أن تقبل التعامل بها. والبديل الثاني هو تسوية الالتزامات الدولية مع الدول المذكورة باليوان الصيني وهو عملة دولية تشكل نحو 11% من وحدة حقوق السحب الخاصة. ويعيب هذا البديل أن تركيا لا تملك رصيدا من اليوان حيث تحقق عجزاً تجارياً يصل لنحو 22 مليار دولار مع الصين، وعجزاً يصل لنحو 18 مليار دولار مع روسيا، وعجزاً يصل لنحو 6 مليارات دولار مع إيران. وصحيح أن السياحة من أبناء تلك الدول في تركيا تقلل العجز التركي، لكنه يظل حاضرا وكبيرا.
والأمر الإيجابي بالنسبة لتركيا هو أن أوروبا التي تتعرض لإرهاصات حرب تجارية أمريكية ضدها سوف تعمل على مساندة تركيا وبخاصة ألمانيا التي تتخوف من تدفق المزيد من الأتراك إليها إذا تفاقمت الأزمة المالية التركية بصورة أشد ضراوة، لكنها بالمقابل قد تفرض شروطا اقتصادية وسياسية على تركيا مقابل تلك المساندة.
أما تهديد الرئيس التركي بالبحث عن حلفاء جدد فإنه يمكن أن يدفعه في اتجاه تعزيز العلاقات مع روسيا وإيران بصورة غير مسبوقة حيث يوجد توافق بين قوائم التجارة الخارجية التركية والقوائم المناظرة في البلدين، وسوف تكون الولايات المتحدة خاسر حقيقي من ذلك حيث تستوعب السوق التركية صادرات سلعية أمريكية تزيد قيمتها على 13 مليار دولار وكلها لها بدائل لدى أوروبا وروسيا والصين، وتحقق الولايات المتحدة فائضا تجاريا مع تركيا يبلغ أكثر من 6 مليارات دولار سنويا.
وتبدو نداءات الرئيس التركي لشعبه بتحويل ما لديه من عملات أجنبية إلى الليرة التركية لدعمها، مثيرة للشفقة وغير مجدية لأن الأمور لا تجري على هذا النحو، فالشعب لن يحول ما بحوزته من عملات اجنبية إلى عملته المحلية إلا إذا ضمن استقرار سعرها أولا للحفاظ على قيمة مدخراته، وذلك من خلال التحول من التعويم الكامل إلى التعويم المدار ووضع مدى محدد لحركة العملة صعودا وهبوطا كما ورد آنفا.
وربما يكون شمول الإجراءات التجارية الأمريكية العدائية للعديد من الدول إلى جانب تركيا، أمرا إيجابيا للأخيرة، حيث يمكن أن يمنحها تضامن بعض تلك الدول. والحقيقة أن إدارة “ترامب” قد أصيبت بخبل حقيقي يتمثل في توزيع الإجراءات العدائية تجاريا وسياسيا ضد أوروبا والصين وروسيا وإيران وتركيا وكندا والمكسيك وغيرها من الدول دون أي حسابات لرد الفعل. وتبدو تلك الإدارة في إجراءاتها العدائية ضد تلك الدول كلبؤة ضارية ومسعورة تطارد قطيعا من الجاموس البري دون أن تدرك أن هذا القطيع لو توقف للحظة وأدرك حجم قوته العظيمة أفرادا وقطيعا سوف يطحنها طحنا لا قيام منه. وحتى لو استعانت بلبؤة عجوز مثل بريطانيا (وهو امر مستبعد لأن بريطانيا نفسها مضارة من السياسات الحمائية الأمريكية) فإن كلتاهما لا قيمة لهما أمام قوة تلك الدول لو اتفقت معا. ويبدو أن السياسة التجارية الحمائية للولايات المتحدة والمناقضة للحرية التجارية التي دعت إليها وحاربت من أجلها، سوف تدفع أهم شركائها التجاريين نحو تعزيز التعاون فيما بينهم والتقليص التدريجي لاعتمادهم على التجارة مع الولايات المتحدة في حالة استمرار ترامب وسياساته التجارية العدائية إذا لم تقم أجهزة الدولة العميقة في الولايات المتحدة بإزاحته عن الحكم. لكن الأهم والأخطر هو أن ذلك سيقترن بتراجع التعاملات الدولية بالدولار مما يحرم الولايات المتحدة من الأداة اللصوصية الأكبر التي تسلب بها إنتاج العالم من السلع والخدمات مقابل مجرد أوراق نقدية دولارية لا يوجد لها غطاء ذهبي أو إنتاجي.