للروائي الألماني توماس مان عبارة في روايته ” الموت في فينسيا” – الصادرة عام 1913- مفادها أن الشوق نتاج المعرفة الناقصة. فهل تكبر الأحلام والأشواق من أو بسبب نقص المعرفة؟ وهل أن أشواق الإنسان إلي العدل والحرية والحب والكرامة قائمة على أن معرفتنا بما نصبو إليه ناقصة؟ فإذا ما اكتملت معرفتنا بموضوع أحلامنا –ذوت أشواقنا؟!. ذكرتني عبارة توماس مان بقصة حكاها لي والدي عن أنه وهو مازال تلميذا في المنصورة وقع في غرام فتاة ، كان يلمح رأسها خلف ستار شباك يوميا أثناء ذهابه إلي المدرسة وعودته منها . قال إنه تعلق بتلك الفتاة وتغزل فيها بأجمل قصائده المبكرة إلي أن اكتشف أنها قلة فخارية ثابتة في صحن فوق إفريز الشباك، وكان يهييء له من ارتجاف الستار في الهواء أن الفتاة تحرك له رأسها وتتابعه ببصرها!
علقت الحكاية بذهني خاصة حين قرأت فيما بعد قصة ليوسف إدريس بالمعنى ذاته عن شخص في زنزانة ملاصقة لحائط سجن النساء وتخيل أن على الناحية الأخرى من جدار زنزانته امرأة تطرق الجدار تواصلا معه، إلي أن يتضح أن سجن النساء لا يقع على الناحية الأخرى! إذن فالمعرفة التي لم تكتمل هي التي تؤجج الأشواق، فصارت القلة عند والدي معشوقة القلب؟ وصار التمني عند المسجون امرأة تخاطبه؟.
شيء كهذا يحدث لنا حين تبدو لنا نظريات التغيير السياسي طريقا إلي الفردوس الأرضي، ثم نتبين أن الغرام، وأن الولع بالثورة، وهم وراء ستار شفاف أضفينا عليه كل جماله من نقص المعرفة؟! ومن الشوق إلي المستحيل؟. أذكر أنني حين سافرت للاتحاد السوفيتي كتبت في أولى رسائلي من هناك إلي صديق مقرب:” تصلك رسالتي من زمن آخر، من المستقبل”. كنت أتخيل أنني بلغت المستقبل الذي ستمضي إليه البشرية! وبمرور الوقت تكشفت الأوضاع هناك عن شيء يختلف عن اللوحة التي رسمها الشوق والتمني معتمدا على المعرفة الناقصة.
ومنذ نحو خمسين عاما كان والدي يهون على نفسه ويخاطبني بقوله : لم ير جيلنا شيئا من أحلامه تتحقق ، لكن جيلك أنت سيرى العدل والكرامة والمساواة بدون شك “. إلا أن جيلي لم ير شيئا من ذلك. والآن لا أجد في نفسي الشجاعة الكافية لأهون على نفسي وأقول لابنتي: ” لكنك أنت سترين كل هذا”. أسأل روحي : هل كانت الأشواق العظيمة ثمرة معرفة عظيمة ناقصة؟ وهل أن اكتمال المعرفة هو النقطة التي يبدأ عندها الشوق في النقصان؟
في حياة كل منا ” قلة” على إفريز شباك، قد تكون حزبا سياسيا، وقد تكون امرأة، وقد تكون ولدا يعقد عليه كل آماله، وقد تكون صديقا ، وقد تكون وهم الكتابة، أو القيام بدور بارز. ونحن نمنح تلك الأحلام أجمل أوقاتنا ، وأقصى طاقاتنا ، ونحيا على أن كل ذلك أو بعضه هو النور الذي نقاتل من أجله، ثم نكتشف أن شيئا لم يتحقق، ونكتشف أيضا أن في الأحلام شيئا آخر، كالبذرة التي تظل تنمو، وتتمدد مثل الضوء الذي يتخطى كل الحواجز. وهكذا نعرف أن الأحلام كلما تجسدت في هيئة محددة تجاوزتها إلي صورة أرقى، وأن القلب الذي خفق من أجل قلة وراء نافذة هو وحده القلب القادر على الاستمرار والبحث. لقد طوى الإنسان قلبه آلاف السنوات على حلمه بأن يكون طائرا مرفرفا ، يفرد جناحيه على العالم ، وكم مرة يتبين له أن حلمه هذا وهم ، إلي أن تراكمت لديه المعرفة فتمكن من التحليق بأجنحة فولاذية إلي أبعد نقطة في الفضاء .
وليس المغزى الرئيسي من قصة القلة أننا كثيرا ما نقع في عشق الأوهام ، لكن المغزى الرئيسي أننا نقع في العشق . ليس مهما أن تتحطم نظريات التغيير السياسية ، المهم أننا مازلنا نريد التغيير ، فإذا تحطم الأصدقاء والأحبة ، وتكشفوا عن أوهام ، فإن الطريق الوحيد لاكتساب الأصدقاء والأحبة هو المزيد من الإيمان بأن العالم ممتلئ بالأصدقاء والكتاب والسياسيين وبالكثيرين ممن تنطوي جوانحهم على الشعر والأمل. والأفضل أن تعاقبنا الحياة بقولها : ” كنتم واهمين” عن أن تعاقبنا بقولها: ” لقد عشتم حياتكم بنفوس جرداء قاحلة، بلا عشق، ولا تمني” .