رغم أن السيسى هو القائل إن الكلام لا يخرج من فمه إلا بعد المرور على فلاتر .. لكن الملاحظ أن هرتلة المسؤولين (على كافة المستويات) صارت من سمات المرحلة بصورةٍ لم تعرفها مصر من قبلُ .. ومن هرتلة اللسان ما يكشف عن هرتلة الفكر .. مثل ما أتحفنا به السيد مهاب مميش الذى قال نصَّاً (بالنسبة لنا كعسكريين لا نستطيع أن نقتنع بمدنىٍ كان مدرساً أن يكون قائداً أعلى للقوات المسلحة) يقصد الأستاذ الدكتور محمد مرسى.
جاءت هذه العبارة الكارثة فى حديثه للمصرى الْيَوْمَ قبل أسبوع فى ذكرى مرور ثلاث سنوات على تفريعة قناة السويس .. وهى مناسبةٌ كانت أدعى لصمت المسؤولين عنها من منطلق (إذا بُلِيتُم فاستتروا) .. لكن إعلام الصوت الواحد أفرد مساحاتٍ للسيد مهاب مميش رئيس هيئة قناة السويس (وأشياء أخرى) لم تُفرَد لرؤسائها التاريخيين مجتمعين (محمود يونس ومشهور أحمد مشهور وعزت عادل) .. وبعد أن حَصَّن نفسه بتصريحٍ افتتاحىٍ وصف فيه التفريعة بأنها (عملٌ وطنىٌ أثبت عبقرية السيسى) صال وجال وانطلقت تصريحاته بلا تحفظٍ ولا حساب .. مُخَّلِفاً وراءه كثيراً من اللغط والسخرية .. مثل ما أسماه أ.د حازم حسنى (الحساب الاقتصادى على الطريقة المميشية ) .. لكن عبارته الآنفة تجاوزت كل الحدود.
لو كان السيد مميش قد قال مثلاً إنه لم يكن مقتنعاً بمرسى بالذات لعدم كفاءته لما كان فى ذلك خطأ .. فهذا رأيه (ورأى آخرين) وحقه كمواطنٍ .. ولكنه ارتكب فى بضع كلماتٍ ما يوجب المساءلة القانونية (فى دولة قانون) .. فقد تحدث بلسان العسكريين بغير صفةٍ (ودون أن يفوضوه) .. رافضاً الانصياع لرئيسٍ لأنه من وجهة نظره لا يصلح قائداً أعلى (أى رئيساً) لمجرد أنه مدنىٌ كان أستاذاً جامعياً (!) .. المضحك المبكى أن السيرة الذاتية للسيد مميش ليس فيها ما يبرر هذا التعالى على أساتذة الجامعة (فضلاً عن باقى المهن) .. فضلاً عن أن الرواية التى ذكرها فى نفس الحديث (ولَم ينفها السيسى) عن كيف خرجت فكرة التفريعة إلى النور هى نموذجٌ لعشوائية التفكير وفوضى اتخاذ القرار .. وفضيحةٌ مكتملة الأركان فى علوم الإدارة العسكرية والمدنية على حدٍ سواء.
كاتب السطور عسكريٌ سابقٌ يعتز بخدمة الوطن من خلال الجيش .. كان من الممكن أن يكون (مدرساً مدنياً) من الذين لا يقتنع بهم السيد مميش، لولا أنه ترك كلية الطب والتحق بالكلية الفنية العسكرية طمعاً فى الاشتراك فى معركة التحرير .. ولم يشعر فى يومٍ من الأيام (هو والآلاف من زملائه) بأن هذا الشرف يُرتب له حقوقاً أو أفضليةً بقدر ما يرتب عليه التزاماً وانضباطاً فى الفعل والقول .. وهناك الآلاف من العسكريين السابقين الذين خدموا ولا يزالون تحت رئاسة قادةٍ مدنيين أفذاذ (والعكس) دون أن تعتريهم هذه النظرة العنصرية الجهولة .. شخصياً تشرفت بالخدمة تحت رئاسة قادةٍ مدنيين أفاضل ويرجع جزءٌ كبيرٌ من خبرتى وسمعتى الإدارية لما تعلمته منهم.
إن القول بأن العسكريين أفضل لإدارة البلد (والعكس) هو قولٌ خائبٌ لا يقول به إلا خائبون ليداروا به خيبتهم .. وهو لم يظهر إلا فى هذه الأيام .. يا سيد مميش .. كل مكونات الطيف المصرى مهمة وغير قابلة للإقصاء .. ولكن مصر أكبر من مكوناتها .. مجنونٌ وأحمق من يتصور أن تكون مصر بعسكرييها دون مدنييها .. أو مسلميها دون مسيحييها .. أو يسارييها دون يمينييها .. مصر بلدٌ غنىٌ بتعدديته.. والجيش جزءٌ من ثراء مصر لكنه لا يُغنى ولا يستغنى عنها .. بل إن ثراء الجيش راجعٌ فى الأساس إلى دمائه المدنية المتجددة من ضباط الاحتياط والمجندين.
إن العسكريين الذين برزوا فى قطاعات الإنتاج والإبداع والفكر مثل ثروت عكاشة وصدقى سليمان وأمين هويدى ومحمود سامى البارودي وغيرهم، نجحوا لأنهم أكفاء لا لأنهم عسكريون .. بدليل أن غيرهم فشلوا .. والجيش مثل أى مؤسسةٍ فى مصر به الكفء والتافه .. لكن وجه مصر الحضارى والاقتصادى والتاريخي هو وجهٌ مدنىٌ بالأساس .. زانته وتزينه نجومٌ لامعةٌ لا تكفى لحصرها آلاف المقالات .. (غنيم، مجدى يعقوب، مشرفة، زويل، …، نجم وإمام، فؤاد حداد، صلاح جاهين، الأبنودي، …، شوقى، وحافظ، وناجى، ورامي، …، محفوظ، العقاد، طه حسين، إدريس، إحسان، بهاء طاهر، …، الجريتلى، القيسونى، عزيز صدقى، عبد العزيز حجازي، …، هيكل، أحمد بهاء الدين، الزهيرى، مصطفى وعلى أمين، التابعى، …، السنهوري، يحيى الرفاعي، …، سعد زغلول، مصطفى كامل، محمد فريد، النحاس، مكرم عبيد، …، يوسف وهبى، المليجي، عمر الشريف، فاتن حمامة، …، صلاح أبوسيف، الطيب، شاهين, …، أم كلثوم، عبد الوهاب، عبد الحليم، …، محمد عبده، الشعراوى، المراغى، شلتوت، الغزالى، …. إلخ) .. يبدو أننا صرنا مضطرين فى عصر الهرتلة لمناقشة أمورٍ كُنَّا نظنها من البديهيات.
القاهرة فى ١٢ أغسطس ٢٠١٨