قياساً على قاعدة ليس بعد الكفر ذنب.. فليس بعد بيع الأرض المخضبة بالدماء أى كابحٍ أخلاقى أو وطنى أو اقتصادى أو قانوني يمنع بيع أى شئٍ مهما بلغت قيمته.. ومن لم تَعِّز عليه تيران وصنافير لن يعِّز عليه مصنعٌ أو بنك أو مرفقٌ أو سدٌ أو قناة.
بدايةً فلنُسّمِ الأشياء بأسمائها الحقيقية.. هذا ليس صندوقاً سيادياً لتنمية الأصول وإنما الاسم الأقرب للحقيقة هو صندوق بيع مصر .. بل هذا ليس برنامج إصلاحٍ .. بل ليس برنامج السيسى .. وإنما هو برنامج صندوق النقد الذى أذعن له الحاكم الفرد بعد أن انفرد بقراراته على مدى أربع سنواتٍ.. بعثر فيها جبالاً من الديون والهبات على مشروعاتٍ لم يستشر فيها أحداً.. بل استبعد كُلَ من حذّر من كوارثها.. واثقاً (دون أمارةٍ واحدة) أن الحل سيأتى من السماء التى ستفجر له من الأرض ينابيع بترولٍ وغاز دون حاجةٍ لتخطيطٍ ولا تصنيعٍ ولا عملٍ ولا دراسات جدوى.. فلّما أغلقت أَنّاتُ المظلومين أبواب السماء.. انزلق للدائرة الخبيثة.. ديون جديدة لسداد فوائد ديون قديمة.. وهكذا.. إلى أن استسلم تماماً لوصفة صندوق النقد .. مضيفاً إليها بعضاً من لمساته وأفكاره الجبائية والبدائية عن الاقتصاد والتنمية.
لم يكن لمصر علاقةٌ بكل ذلك.. فلا هى استُشِيرت.. ولا هى وافقت.. ولا هى علمت أصلاً بما تم إبرامه من اتفاقاتٍ إلا فى حدود ما يُسَّرِبه الدائنون من معلومات.. مصر ليس لها علاقة بكل ذلك إلا الغُرم.. هى التى تتحمل وتكابد (إنجازات) الزعيم وأحلامه.. وقد رُهِنَت أحلامُ ثلاثة أجيالٍ قادمةٍ من أبنائها لسداد ديون الزعيم المُلهَم.. لكن الكارثة الجديدة تُجرِّد أبناءنا وأحفادنا من أى قدرةٍ على تحويل المسار وتقضى على أى أملٍ فى النهوض.. فقد تَعود مصر لأصحابها ذات يومٍ (وستعود) .. ويُقَّيِضُ اللهُ لها حُكماً رشيداً يحاول إزالة آثار الخراب (مثلما فعلت ونجحت شعوبٌ كثيرةٌ).. عندها سيُفاجَأُ المصريون بأنهم قد تم تجريدهم من قدراتهم الذاتية على الصمود والمقاومة.
فوفقاً لشروط الصندوق.. والتصريحات الرسمية والقراءة المباشرة لقانون إنشاء هذا الصندوق (بعيداً عن الأكاذيب الرسمية) فإن كل الأصول المملوكة للدولة معروضةٌ للبيع والرهن والمقايضة (دون أى قيدٍ على جنسية المشترى) وفقاً لقرار فردٍ واحدٍ ليس عليه رقيبٌ إلا نفسه بعد أن جمع فى يده كل السلطات.. وهى أصولٌ لم يبنها السيسى ولا حكوماته.. وإنما بُنِيَت على مدى قرنٍ ونصف.. بدءاً من محاولات صغار الرأسماليين المصريين والمتمصرين بل وحكومات الاحتلال .. مروراً بالبنَّائيْن العظيمين طلعت حرب وجمال عبد الناصر .. انتهاءً بالمشروعات الناجحة لبعض أقطاب الرأسمالية الوطنية المُحاصَرين الآن بين فَكَّى القرارات العشوائية وابتزاز الدولة وإتاواتها ..
الموجة القادمة لن تقتصر على التهام شركات قطاع الأعمال المتبقية المنهكة (١٥٠ شركة بحجم الألومنيوم والسكر والأسمنت والدخان وغيرها).. بل ستمتد إلى البنوك.. التأمين.. البترول.. الطيران.. المرافق والهيئات (الكهرباء والمياه والصرف الصحى والسكك الحديدية والمترو .. وربما هيئة السد العالى وقناة السويس).. تتلوها موجاتٌ لا حدود لها بالنسبة لباقى الأصول المملوكة للدولة (وهى عبارةٌ فضفاضة تتسع لكل ما على أرض مصر ) .. أما الأصول الخاصة (مصانع وأندية ودور نشر وإعلام وإنتاج فنى وأدبى ..إلى آخره.) فيجرى الآن التهامها بأموالٍ خليجية وغير خليجية.
لا مبرر لليأس والرضوخ لهذه الجريمة مهما بلغ بطش البائع والمشترين .. فللمصريين تجربةٌ ناجحة فى التصدى للموجة السابقة.. ففى عام ٢٠٠٧ أطلقنا حركة (لا لبيع مصر) لوقف قطار البيع الذى دهس نصف شركات قطاع الأعمال وبدأ يزحف على البنوك مستهدفاً بنك القاهرة بعد بنك الإسكندرية.. لم يكن معظمنا ضد الخصخصة كأداةٍ اقتصادية ولكن ضد الاستخفاف بالمال العام والتصرف فيه دون موافقة أصحابه وفى غياب شفافيةٍ تكشف الفساد .. اتحد الفرقاء تحت هذه المظلة وكانت الرؤية واضحة .. فلنؤجل خلافاتنا إلى يومٍ يصبح القرار فيه بيد الشعب ..أما قبل ذلك فليكن هَمُّنَا إيقاف البيع لأن كل ورقةٍ تسقط من شجرة الوطن يصعب تعويضها .. تسامَى الجميعُ فوق خلافاتهم واختلافاتهم .. وافقت تنسيقية كفاية على اقتراح د.عبد الوهاب المسيرى بأن تستقل حركة (لا لبيع مصر) عن كفاية على أن تنضم كفاية لها (لكى يرفع الحرج عن د.عزيز صدقى الذى لم ينضم لكفاية) ..شرَّفَنى الكبيران باختيارى منسقاً للحركة .. كانت معركة بنك القاهرة نموذجاً للتوحد فى معركة تتجاوز الخلافات المذهبية.. اشتركت جريدة الوفد (المنادية بآليات السوق) جنباً إلى جانب مع الاهالى (الاشتراكية).. ولَم يُستدرَج أحدٌ إلى المعارك الجانبية الصغيرة.. عندما سُئل المصرفي الوطنى الكبير على نجم (لماذا تعترض على بيع بنك القاهرة مع أنك لست ناصرياً؟).. أجاب بحسمٍ وبساطة (يكفى أن تكون مصرياً لتعترض على بيع البنوك الوطنية).. كانوا كباراً.
أعرف أن الزمن غير الزمن.. والمصيبة أعظم.. والقمع أشد وأطغى.. والبيئة القانونية بلا قانون.. والمحاربين القدامى انشغلوا بقتال بعضهم وصار بأسهم بينهم شديداً.. وتم تدجين الاتحادات والمنظمات العمالية والمهنية.. وتخوين منظمات المجتمع المدنى.. ولا مجال لاستخدام أدوات المقاومة القديمة.. ولكننى أعرف أيضاً أن فى مصر أجيالاً شابةً تتشكل من رَحِم المعاناة.. لم تُصِبْها أمراضنا وعاهاتنا.. وتسخر من صغائرنا .. أوقن أنها ستفاجئ الجميع وهى تعزف لحن (لا لبيع مصر).. ولكن بتوزيعٍ جديد .. وأدواتٍ جديدة .. فمصر لا تموت