تُكثِر الدوائر الحكومية والاعلام الترويج لأن الغلاء يرجع للاسعار العالمية.وكأن الاقتصاد المصري والسوق المصري مجرد مفعول به.بينما الأسعار المحلية هي مرآة عاكسة لأوضاع الاقتصاد المحلي قبل أن ندخل العوامل الخارجية. والهدف ترويج ان الغلاء قدر محتم لا فكاك منه .
الاسعار آلية ترتبط بالسوق المحلي وقد ربطها استاذي الدكتور إبراهيم العيسوي بثلاث اختلالات اقتصادية هي اختلال الاقتصاد الحقيقي أو العيني و اختلالات المالية العامة والاختلالات في عرض النقود، والأئتمان.لذلك تتفاعل هذه الاختلالات لتخلق التضخم المحلي الذي يقوم بدور أساسي في إعادة توزيع الدخل بين الاغنياء والفقراء.
فالتضخم المنفلت يرتبط في جانب منه بالأسواق المفتوحة وهي شرط من شروط اتفاق صندوق النقد الدولي ومرتبط ايضا بالاحتكارات كما هو في صناعة الحديد والأسمنت وغيرها. إن تراجع الدور الاقتصادي للدولة وبيع القطاع العام هو أحد مسببات التضخم والغلاء.وفي موازنة 2018/2019 تعتزم الحكومة بيع 23 شركة ناجحة وبنك إضافة لخصخصة المرافق والخدمات العامة من المواني للسكك الحديدية ومن المياه للكهرباء ومن التعليم والصحة الي مراكز الشباب والاعلام. واطلاق يد القطاع الخاص الهادف للربح الذي يعمل علي تسليع المجتمع وتحقيق اقصي ارباح بدون سقف علي عكس كبريات الدول الرأسمالية التي تضع سقف للارباح ورقابة علي الأسواق.
إن الطاقات العاطلة في القطاع الصناعي وانخفاض الانتاجية يؤثر علي مستوي الاسعار في مصر. كما أن قيمة العملة الوطنية أمام العملات الأخري خاصة الدولار الأمريكي تؤثر علي أرتفاع اسعار جميع السلع والخدمات وكلنا نذكر ارتفاع اسعار الخضروات والفاكهة المحلية عقب تخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار في عام 2016 تنفيذا لتوصيات صندوق النقد الدولي.لقد ادي تخفيض قيمة الجنيه من 8 الي 18 أمام الدولار لتفجير موجة كبيرة من الغلاء ممتدة حتي اليوم في كافة السلع التي لاعلاقة لها بالسوق العالمي من البطيخ والخيار الي الفجل والجرجير.
كما أن ضعف الاقتصاد العيني يؤدي للمزيد من الاستيراد من الخارج وفي ظل تدهور قيمة العملة الوطنية تزيد موجات الغلاء. فكلما زاد انكشاف الاقتصاد المصري علي الخارج كلما زاد تعرضه للصدمات.
كذلك فإن اللجوء لتمويل عجز الموازنة بالديون المحلية والخارجية كارثة تنعكس علي الاسعار. فمنذ 2014 وحتي 2018 ارتفعت الديون المحلية من 1.6 مليار جنيه عام 2014 إلي 3.2 مليار جنيه في مارس عام 2017.
كما ارتفعت الديون الخارجية من 46 مليار دولار عام 2014 إلي 82 مليار دولار في مطلع عام 2018.ولدينا ديون تم اقتراضها وسعر الدولار 6 جنيه و8 جنيه وسيتم ردها بدولار سعره يصل الي 18 جنيه.
رغم فشل سياسة التمويل بالديون المحلية والخارجية تستمر الحكومة في انفلات المديونية خلال السنوات الأخيرة. الأمر الذي قفز بفوائد الديون من 193 مليار جنيه في موازنة 2014/2015 وتمثل 25.2% من مصروفات الموازنة إلي 541.3 مليار جنيه واصبحت تمثل 38% من المصروفات. بل ووقعت الدولة اتفاقها مع صندوق النقد الدولي وقدمت خطاب نوايا تعهدت خلاله بالمزيد من رفع الدعم ورفع الاسعار وحرية الاسواق وإطلاق يد القطاع الخاص.
لذلك فإن التضخم والغلاء مرتبط بالاختلالات الداخلية للاقتصاد المصري وبأساليب المعالجة التي ثبت فشلها ورغم ذلك يوجد إصرار علي الاستمرار في تنفيذها وتحميل الفقراء وحدهم أعباء الأزمة.
كما أن السياسة الضريبية تلعب دور مهم في إعادة توزيع الدخل وترفض الحكومات المتعاقبة فرض ضرائب تصاعدية علي الدخل والثروة وتتوسع في الضرائب غير المباشرة التي يتحملها الفقراء في مقابل المزيد من الاعفاءات الضريبية للمستثمرين وبما يزيد من إعادة توزيع الثروة والدخل لصالح طبقة حاكمة والمزيد من الأفقار لباقي الشعب المصري. بل وتم فرض ضريبة قيمة مضافة تنفيذا لتعليمات الصندوق بما أدي للمزيد من ارتفاع الاسعار. كذلك فإن التوسع المتوالي لرفع رسوم الخدمات الحكومية هو عامل حافز للمزيد من التضخم والغلاء في كل القطاعات.
أكذوبة دعم المنتجات البترولية
يوسف بطرس غالي وزير مالية مصر الأسبق ومستشار صندوق النقد الدولي الآن هو أول من ابتدع موضوع دعم الطاقة في الموازنة بعد تعديلها في 2005. ( محمد معيط وزير المالية الحالي كان يعمل وقتها مستشار ليوسف بطرس غالي).
المهم تكلفة انتاج برميل النفط في مصر لا يتجاوز 7 دولار ( جريدة البورصة – 28 ديسمبر 2015 ) يعني حوالي 126 جنيه ودي التكلفة شاملة التكاليف التشغيلية للاستخراج والتكاليف الرأسمالية التي تشمل البحوث والتطوير والاكتشافات. يضاف اليها 6.5 دولار تكلفة تكرير برميل البترول يعني 117 جنيه وبالتالي يكون إجمالي التكلفة 13.5 دولار وبسعر الدولار الآن 243 جنيه فقط.
تفتقت عبقرية الشيطان علي احتساب الفرق بين سعر البرميل في الداخل وسعر العالمي ” كدعم للمنتجات البترولية”. وطبعا احنا حسبنا السعر علي برميل تمت معالجته وتكريره والسعر العالمي علي سعر البرميل الخام الغير معالج .
ببساطة لو بننتج برميل النفط بسعر 7 دولار ونبيعه للجمهور في مصر بهذا السعر فإن الفرق بين سعره العالمي 70 دولار وسعره المحلي 7 دولار يعتبر حسابياً عند يوسف بطرس وزبانيته دعم بمقدار 63 دولار للبرميل بما يعادل 1134 جنيه لكل برميل. ولذلك يردد المسئولون إن كل زيادة دولار في سعر البرميل تزيد الدعم مليارات وهي أكذوبة حسابية غير حقيقية بالنسبة للمنتج المحلي. ولكنها تختلف بعض الشئ بالنسبة للمنتجات المستوردة.
لذلك يشكل رقم الدعم مجرد فرض محاسبي غير حقيقي يتم توظيفه لتمرير المزيد من غلاء الاسعار. ولذلك يشكل قطاع البترول والغاز اكبر القطاعات الجاذبة للاستثمار من أجل استنزاف مواردنا الطبيعية لتضخ مليارات في أرباح شركات البحث والتنقيب والاستخراج العالمية.
أكاذيب السعر العالمي
– تكلفة انتاج برميل النفط تصل الي 52.5 دولار في بريطانيا و 36.3 دولار في الولايات المتحدة وتصل الي 29.9 دولار في الصين.لذلك تضغط الدول الكبري علي الدول المنتجة للنفط لتزيد انتاجها بما يهبط بالاسعار العالمية ولكي تحافظ علي مخزونها النفطي مقابل استهلاك نفط رخيص من باقي دول العالم.
– عام 2011 كان سعر برميل النفط العالمي يتجاوز 100 دولار وانخفض بعد ذلك الي أقل من 28 دولار في 2015 ثم ارتفع الي 70 دولار . هل انخفضت الاسعار في مصر؟! هل اسعار المنتجات البترولية انخفضت؟! إذا هي ليست أسعار عالمية.
– عام 2014/2015 تم إلغاء الدعم نهائياً عن الغاز الطبيعي للسيارات والمنازل ومنذ ذلك الحين لا يوجد أي دعم تقدمه الدولة للغاز الطبيعي . ورغم ذلك ارتفع سعر الغاز للمنازل وارتفع سعر غاز السيارات الي 110 قرش للمتر المكعب ثم 160 قرش في 2016 و 2 جنيه في 2017 و 275 قرش في 2018 وكلها تذهب أرباح صافية لشركات الانتاج والتوزيع. ولا علاقة للسوق العالمي باسعار الغاز الطبيعي.
– رغم كل اعلانات الاكتشافات من الغاز الطبيعي.هل انخفضت اسعار الغاز الطبيعي ؟! ألا يعكس ذلك أكذوبة الأسعار العالمية .
– واذا كانت الأسعار عالمية هل انخفاض أسعار النفط أو القمح في السوق العالمي يؤدي لتخفيض أسعار البنزين وشوال الدقيق ورغيف العيش في مصر؟!
الغلاء والبلاء الذي تعيشه مصر بسبب سياسات اقتصادية فاشلة تسعي لتدمير كل فرص الانتاج المصري وتتوسع في الاقتراض حتي يسهل السيطرة علي مصر وإخضاعها.
للتضخم أسباب معروفة وهناك آلاف من رسائل الماجستير والدكتوراة والدراسات عن أساليب علاجه. يكفي أن نذكر أستاذنا العظيم الراحل الدكتور رمزي زكي الذي قدم في كتابه ” مشكلة التضخم في مصر ” سنة 1980 برنامج متكامل لمكافحة الغلاء في مصر، ولكن المصالح والانحيازات الاجتماعية هي التي تحكمنا. والمواجهة تحتاج الي إرادة سياسية غير متوفرة في ظل الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي والممولين من الدول المانحة والشركات الدولية التي تدير الاقتصاد المصري لصالحها بينما يدفع الشعب المصري الفقير وحده الثمن الباهظ.