صيف ١٩٨٤ بمدينة سنورس كنّا نستقبل أصدقاء وزملاء اخي الكبير محمد السماك. ومنهم الجهادي المنظم محمد عبد العزيز صاوي قريبنا الواسطة عند حكام هذه البلد الحقيقيين ( التيار الديني ) زي ما كان بيقول عليه محمد أخي (لروحيهما السلام ) اثناء ذلك كانت ابنة اختي الصغري نجوى تلعب بالشارع. وإذا بصبي سخيف يحاول إخافتها متلذذا بنظرة الرعب في عينيها فخرجت وقلت له ابعد عنها. وعدت. ثم عاد ثانية. فطبعا انطلقت كعادتي “يعني مَش قلت ل.. أمك ابعد عنها أمشي يلا يا بايخ من هنا قال لي ولو ما مشيتش قلت هـ طلع “…” أمك عادي.
فجأه جاءت الصيحة من الداخل. استغفر الله.. مين بيسب الدين ما ذنب الدين. تعالى يا شيخ. استغفر الله. تبنا الى الله.
يا صديقي، هل تواظب على الصلاة.. فرد محمد قائلا أكيد يا شيخ محمد بس اخويا ده بره التقييم منفلت الزمام عشان هو آخر العنقود ودلوعة أمة بهية. نظر الي بتمعن شديد وكأنه سينيمني مغناطيسيا فضحكت وقلت له إيه شغل اسماعيل ياسين ده.. ضحك بشدة وقال لي عينيك كلها ذكاء وشقاوة. سوف نفتتح معرضا للكتب بدكان في شارع السوق، مر عليا ضروري جدا، أولا لتساعدنا ثانيا لأخذ كتبا مخفضة واُخرى مجانية.
ذهبت إلى الدكان وكان عبارة عن بنش يتوسط الباب.. وأرفف عليها بعض الكتب بالداخل وهتف لي محمد يا أهلًا بالشباب بارك الله في صحة من يفعل الخير ويعلم الناس ان ما تفعله قد يكون بسيطا وتافها عند الناس لكن له عظيم الشأن عند الله.
رصينا الكتب وصنفناها، وحين عودتي، أعطاني كتابين. ( لن أنساهما ما حييت ). الدين في مواجهة العلم، ( محمد تقي الدين الأميني )، والإسلام يتحدي، وحيد الدين خان. ترجمة عبد الصبور شاهين.
قرأت الكتابين وذهبت إلى محمد عبد العزيز، والذي واظبت على حضور لقاءات الشيخ عمر عبد الرحمن امام المجاهدين ورمز التمرد في محافظة الفيوم.
وقلت له، الكتب تتعرض لمناقشة كتب كثيرة اخرى والحقيقة احنا ما شفناش هذة الكتب والجمل مجتزأة من السياق. وممكن كمان تبقى الترجمة غير موفقة وخاصة انهم أجانب سواء كان ماركس أو إنجلز، أو فرويد، أو داروين ،نظر لي بذهول وقال انا عمري ما شفت صفحة من الكتب الكافرة المنحلة دي انت عايز كل الكتب دي. ما لا يقل عن ٥٠ كتاب دي تبقى رسالة دكتوراة بقى، لسة بدري الكلام ده يا أخي.
فقلت السؤال ما حرمش
لكن له وقته ومكانه تعالى محاضرة الشيخ عمر يوم الثلاثاء بعد صلاة المغرب وهنسهر مع بعض شوية.
وسابني حاير في حالي
عدت إلى بيتنا والأسئلة تحاصرني.
مَش عارف أنام، مَش عارف اشتغل، مَش عارف اقرأ حاجة تانية.
ذهبت إلى جيراني المثقفين
عماد هلال، مصري الزعطي، خالد عبد الجيد، منين اقرأ ماركس ؟ قالوا لي فيه واحد ساكن في الجب، أسمه عز الفيومي، شيوعي اسأل عليه لو ما كانش في القاهرة ده هيبقى بوابتك الوحيدة.
ذهبت اليه، وقلت له، انا عارف انك شيوعي، وانا اخو محمد السماك، وعايز أبقى شيوعي، ضحك جدا، وقالي بسخرية: تشرف وتنور، طب ما الناس دي عندها الكتب ليه بقى انا، قلت بمنتهي السذاجة هما اللي قالولي، قالولك، طيب خد الكتاب ده، هو بيان الشيوعية.
نيتشة، ( عبد الرحمن بدوي)، عدت منتصرا وافتح الكتاب، ما فيش شيوعية، ما فيش غير فلسفة، ما فيش اقتصاد سياسي، ما فيش كلام عن الطبقات، عن التطور العلمي. الله. دي شيوعية أونطة ولا أيه. خلصت الكتاب ورجعت متحسرا وحزين ومتضايق.
ك. أمك. انت ابن… غشاش. انت مَش شيوعي، وهطلع دين أمك، ده. كتاب خرا على دماغك. دي بتتباهى انها ملحدة وكافرة ومقدموش بديل لعذابات الناس في الدنيا طالما ما فيش آخره
ابتسم وقالي طب اهدا تعالى اقعد
الحقيقة انه ما فيش في تاريخ الحركة الشيوعية واحد جاي فارد صدره كده ويقول عايز أبقى شيوعي، الا اذا كان أمن أو مجنون، احنا يا ابني بنقعد نستهدف الناس عشر سنين وبعدين يطلعوا أمن او خو.. وانا سالت عليك. والحمد الله طلعت مجنون، فقلت له ليه المقلب البايخ ده، سديت نفسي يا شيخ.
قال سوف تعلم ان الأمن يعادينا اكثر من اسرائيل وأننا مستهدفين في كل لحظة وأننا في معركة حياه او موت معهم، ومين يكسب التاني.
وبدأت الرحلة والطريق، من الشيوعي المصري إلى يناير، إلى العمال. إلى الموتمر. الى ان قابلت المعلم الثاني. (أحمد حسن ) لأرى عالم اكثر براحا وصدقا وانسانية، مع تروتسكي.
وكل ذلك كان عز الفيومي موجود ويشاهد ويبارك، اختار طريقك، اللي انت عايزه، وانا أرد بفجاجة مَش بمزاجك يا .. أمك.
كنت اجرب كل شيئ واعلم انك موجود في خلفية المشهد، هتيجي مرة تقول لي انت اللي هتغني يا منعم.
مسكت يدي في اول خطوه بالجامعة.
وعرفاني فريق المسرح، الشعراء، السياسيين المثقفين الجوالة اساتذة الجامعة ثم عالم وسط البلد وحزب التجمع ووووور
فجأه سافر عز عشر سنوات إلى سويسرا، ولما عاد عرفت انه كان في مصحة نفسية، وانه عاد بعد فشل ذريع، قلت له لنبدأ من جديد. وعمل معي بفيلم خيانة مشروعة للمخرج خالد يوسف، وهو دور غير مناسب له. لكن تحت ضغط وإلحاح مني وان ده على الشريف الجديد، وسيحسب لك انتشاله من الموت، وإعادته الى الحياه. (رضخ خالد يوسف امام الإنسانيات) أخذ الدور. وبدأنا مشاريع اخرى، لكنه انتكس، تحدثنا بجدية في المصحة رفض، هددته بقطع علاقتي به، وان هذا سيكون اختيارة وانه كده بينتحر اجتماعيا، استمر في الرفض، وسافر الى أسوان وتزوج، ثم عاد محتاج سكن وعمل، حاضر. لا انا عايز اجيب بضاعة أبيعها في القطر .. ليه يا عز. ؟
خلاص بقى ما فيش مسرح، والسينما ماتت، وانا مَش عايز ألعب اللعبة دي تاني، انا عايز أعيش اتجوزت يا واد.
مبروك.. غور بقى أمشي، طيب مَش هشوفك تاني.
ما انا متلقح قدامك أهو، ابقى عدي واقرفنا نظر في الأرض من خلف النظارة وقال ماشي.
قلت له ما تزعلش، بس انت بتعمل حاجات تضحك الصراحة، بضاعة في القطر، عايز تعمل دور قناوي وهنومة.. لمعت عيناه وقال يا ريت، ما تنتج لي ياه.. قلت له اول ما أبقى حرامي او بغسل أموال عشان اجيب ممثل فاشل زيك.
طيب هات فلوس البضاعة.
راح ورجع. راح ورجع.
ثم راح ولَم يعد
مع السلامة يا عز عندنا حكايات كتير.
وطلعت دين أمي امبارح وكبست على نفس أمي طول الليل والصبح قاعد أقول اسمك
وزي ما كنت بتتباهي بيا بوصفي ابنك ونتاجك انا كمان بعتز انك ابويا الروحي، ومعلمي الاول. سلام مؤقت.