هل تحتاج مناجاة الرب إلي ختم الدولة؟ وهل تحتاج ملاقاة الرب في الرحلة الأخيرة إلي ختم الدولة؟. نعم. يحدث هذا في مصر، حينما يحتاج أقباطها إلي الشوارع لإقامة الصلاة وإلي الشوارع لتوديع موتاهم، لأنه ليس لهم كنيسة بترخيص رسمي في قرية” دمشاو هاشم” بالمنيا وفي غيرها. هكذا يختلس الأقباط للموتى لحظة الرحيل إلي الرب، ويختلسون لحظة مناجاة الرب بلا كنيسة، ومن دون سقف.
في يوم الخميس الماضي 6 سبتمبر أقام القس أنطون الصلاة على جثمان وديع حبيب في “دمشاو” في زقاق جانبي ضيق بعد العدوان الهمجي الذي تم على الأقباط قبل ذلك بأسبوع في 31 أغسطس حين خرج عليهم ألف شخص يهتفون ويعتدون ويصيبون اثنين بجراح ويقتحمون المنازل ويسلبون محتوياتها ويضرمون النار في واحد منها! سبق تلك الغزوة حدث مماثل في قرية “عزبة سلطان”المجاورة، وقبلها تعرضت دمشاو نفسها للعنف الطائفي عام 2005، وفي كل تلك المرات لم يعاقب أحد، مما شجع على تجدد الهمجية بهدف منع بناء كنيسة حيثما أمكن.
وتبقى جمرة الطائفية تخبو وتتوهج وتندلع النار منها فجأة لتلتهم كل شيء. وهي جمرة تتغذى في وجودها على عوامل قانونية، وتعليمية، وإعلامية، وثقافية. ولا يمكن هنا إنكار أثر هيمنة ثقافة العصور الوسطى المتجسدة في كتب ابن تيمية، والشيخ أحمد الدمنهوري صاحب كتاب” اقامة الحجة الباهرة على هدم كنائس مصر والقاهرة” الذي يدعو فيه إلي هدم الكنائس ويقول فيه بوضوح قاطع: ” إن من أفتى بخلاف هذا القول فهو مختل الدين .. ويجب بإجماع المذاهب الأربعة على قاضي المسلمين أن يحجر على ذلك المفتى لجهله أو خيانته”، ومع أن الدمنهوري قد توفي منذ أكثر من مئتي سنة، فإن كتابه يثب إلي شوارع مصر مجددا عام 2013 من مكتبات المنصورة، وجاءت إعادة طباعته عقب هدم كنيسة أطفيح، كأنما ظهر في هذا التوقيت ليضع الأساس النظري لهدم الكنائس وبث السموم في الوعي العام. وقضية هيمنة ثقافة العصور الوسطى موضوع يمس مباشرة جهات مثل اتحاد الكتاب، ووزارة الثقافة، والجهات التعليمية، والأزهر الشريف. فقد مرت أحداث” قرية دمشاو ” مرور الكرام على كل تلك الجهات من دون أن ينبس أحد بحرف أويحرك أحد ساكنا. لماذا لا تشغل وزارة الثقافة واتحاد الكتاب أوقات موظفيها بالتفكير في تشكيل لجان ثقافية شعبية لمقاومة الطائفية، لجان أشبه بكتائب ثقافية خفيفة متحركة تسعى بعروض تشمل الشعر والمسرح ومشاهد سينمائية وأغنيات عن التسامح والوحدة الوطنية ترسخ التسامح والمواطنة وقبول الاختلاف العقائدي.
وأتساءل بالمرة أين موقف المجلس القومي لحقوق الإنسان مما جرى؟ ألا يعتبر أن نهب بيوت الآخرين وإضرام النار فيها عدوان على حقوق الانسان؟ أليست حرية العقيدة من حقوق الانسان؟. جزء من جمرة الطائفية التي تتوهج وتخبو قضية التشريعات والقوانين ومنها قانون تنظيم بناء الكنائس الذي مازال حزب النور يرفضه جملة وتفصيلا، ولا تفعل بنوده في أغلب الأحوال حتى أن هناك طلبات تقنين وضع بعض الكنائس لم يبت فيها منذ عام 1976إلي الآن!
أما المذهل فهو موقف البرلمان مما جرى، فقد انتفض البرلمان في الأول من سبتمبر الحالي ضد مسابقة ينظمها نائب بالبرلمان الهولندي لاعداد رسوم مسيئة للاسلام! وشن أعضاء البرلمان هجوما عنيفا على الهولندي وأكدوا أن هذه المسابقة تأتي في سياق التعصب مؤكدين على سماحة الدين الاسلامي! إذن هاج البرلمان وثار بسبب رسوم هولندية متعصبة، أما التعصب الذي يجبر الناس على الصلاة وعلى توديع موتاهم في الشوارع فلا يستحق لا ثورة ولا كلمة ولا بيانا رسيما ولا إرسال وفد برلماني ليتقصى ما جرى في دمشاو!
ولم تنطق وزارة الثقافة بحرف، ولا اتحاد الكتاب، ولا أحد كأن القضية قضية اكتشاف طبي في النرويج ! وليست دمشاو أول المشاهد المحزنة، ولا حتى أشدها قسوة على الضمير، ففي 20 مايو عام2016 قام نحو ثلاثمائة شخص في الصعيد بتعرية عجوز مسيحية في السبعين من عمرها ، وطافوا بها قرية ” الكرم ” وهم مسلحون، وقالت العجوز ” سعاد ثابت” في محضر الشرطة باكية:” بهدلوني، يا بيه. حرقوا البيت ودخلوا جابوني من جوه. رموني قدام البيت وخلَّعوني هدومي يا بيه، زي ما ولدتني أمي، مخلوش حاجة حتى ملابسي الداخلية وأنا بأصرخ وأبكي.” ولم تحسب وزارة الثقافة أو اتحاد الكتاب أو وزارة التعليم أو الأزهر الشريف أن عليها منفردة أو مجتمعة أن تتحرك لتغيير الوعي العام. مازالت دموع الأم العجوز تجري في ضميري تنادي: ياولدي، آن الأوان للكف عن الظلم، ياولدي!
د. أحمد الخميسي. كاتب وقاص مصري