منى سليم في رحلة لمستشفى الأورام وعالم الوجع الأكثر شدة: كن كـ «العم جمال» كوني كـ «الست نعمات»

قضايا ساخنة ملفات نرشح لكم
كتب :

ما هو الوجع الأكثر شدة؟ ..

أن تبقى وحيدا بينما يتكاثف عليك المرض، تخف النوبة فتتركك هناك بليدا، تزيدك وحدتك وحدة، يملؤك فراغاً له طعم الألم ورائحة الفورمالين، وعندها لن تستطع أن تسمع أنات غيرك، وإن صدرت شديدة الالتصاق بك، من أقرب الأقربين.

.. إنها عزلة الوهن.

ولكن في تلك المشفى، المكتظ بمرضى السرطان رغم عدم تخصصه بعلاجه، كان الأمر غير ذلك، رأيت المتعة، كانت هناك، وكان الونس، رغم الآلام الشديدة التي تحوم داخل أرجاء هذا القسم المطلية جدرانه باللون الوردي، ويسمونه (الروز الثالث).

باقي الأسماء أيضاً حاضرة، يمكنك أن تتعرف عليها مبكراً قبل استكمال سطور تلك القصة، هناك “الست نعمات ـ أم علي” وزوجها المحب “حكيم”، هناك صوت الصعيد “الست نادية ـ أم محمود” وزوجة إبنها المنتقبة التي تصلك ابتسامتها من خلف حجاب، هناك العم المثقف الهادىء “منصور” والشاب مفتول العضلات “محمد”، والاستاذ “أحمد” القادم هو وأبنة اخته من “الدور اللي فوق”، هناك أحمد الصوفي ومحمد علي ومدام هدى، وهناك الممرض الشيخ إبراهيم والست سعاد كبيرة الممرضات وعبدالرحمن ومنى و آخرين، هناك فريق الأمن الخاص الذي لا يستطع وسط هذه الأجواء الإلتزام بمكانه عند مدخل القسم الوردي، هناك صوت عبد الحليم حتى و إن غنى “ضي القناديل”، وبين كل هذا وذاك لا تنسى بشكل خاص وجه “العم جمال”، فمن عنده أخذت كل خيوط القصة في البزوغ ثم الاكتمال.

الرائحة ليست بالجيدة، لا يمكنك أن تعرف السبب جيداً، فـ “أم جمعة” ورفيقاتها يستخدمن المنظف وقطع التلميع في حملتهن للتنظيف اليومي بالـ 30 غرفة التي يضمها القسم، قد تكون المشكلة بالتهوية أو التكدس أو الإثنين معاً، لكن أنفك وروحك ستعتادها هي وغيرها من الأمور بعد وقت قليل من الدلوف، أنه ـ كما تعرف ـ فعل الحياة (خلق المألوف).

القسم الوردي

“اه طبعا مألوف .. احنا بنقعد هنا اكتر ما بنقعد في بيوتنا”، يقولها أكثر من صوت رداً على أكثر من ملاحظة.

يتلقي أغلب المرضى العلاج الكيماوي CHEMOTHERAPY COURSE تتراوح الجرعات ما 6بين إلى 15 وقد تزيد، علاج مرهق بدنياً ونفسياً ومادياَ لكن يخف اثره وفق ما تبقى لدى ملايين المصريين من دفاتر التأمين الصحي، ويخف عندما يتبادل الحضور بالغرف المتلاصقة الخبرات والمعلومات، لا يخلو الأمر بالطبع من أن يتبرع أحدهم بدور “الخبير اليوغسلافي” الذي قد يشيع الفزع خاصة لدى “الوافد الجديد” باعتباره بطبيعة الحال “زبون لقطة”.

الطبيبة “نوال” هي إحدى الإستشاريات من قسم يضم ما لا يقل عن ثمان أطباء تتنوع رسائلهم العلمية حول كثير من أنواع السرطان، هذا المرض الملعون الذي يهرول داخل حياتنا كلص حصل على حريته في ليلة غبراء تكسرت بها واجهات كل الحوانيت، قد يقف وراءه مبيدات يوسف والي التي لم تتوقف يوماً وهو ما يفسر انتشار سرطانات المعدة والقولون والطحال بشكل خاص، وقد يقف وراءه طفرة جينية ابتلى بها هذا الجسد النحيل للرجل الشاب الذي يودع عقده الاربعين فانحرفت خلايا المقاومة عن دورها كجيش للدفاع إلى عدو لئيم.

ترى الطبيبة أن هناك تطور علمي كبير في طرق التشخيص وفي خصائص العلاج بما يقلل الأعراض الجانبية ويكثف من النتيجة المرجوة، ولا تجد أن مصر بعيدة عن ذلك تماماً حتى و إن لم تستطع المستشفيات المصرية أن تجاري كافة انواع العلاجات المستحدثة نظراً لإرتفاع كلفتها، تقول: “نستخدم المتاح ونحاول تعظيم الفائدة منه قدر استطاعتنا”، هذا ويبقى الإجابة على سؤال “كم يتبقى من العمر؟” من المحرمات في بروتوكلات الأطباء المصريين

حسب الاحصاءات المعلنة من منظمة الصحة العالمية باليوم العالمي لمقاومة السرطان (فبراير 2017) فإن عدد المرضى على مستوى العالم باختلاف أنواع الأروام وصل إلى 14 مليون انساناً وتأتي أورام الرئة والثدي والقولون في المراتب الأولي أما نصيب مصر السنوي من هذه الاحصائية فهو ما يقارب الـ 100 ألف مصاب سنوياً.

غرفة للجميع

“303” رقم هو الآخر، لكنه لا يشبه ثقل ظل الأرقام السابقة، هو رقم الغرفة الأخيرة التي نزل بها “العم جمال”، كان بهذا النهار الأول يمسك أوراق المسح الذري الخامس على أنسجة مخه، ويستقبل نتيجته السيئة في إستهزاء، تكتشف بعد ذلك أنه سمة رئيسية في شخصه بكل حالاته المزاجية.

نحيل في منتصف العقد السابع من عمره، يرتدي جلباب أبيض ولحيته بيضاء، لا لحم بالجسد ولا شعر بالرأس، وإنسجام بالقلب ونغم بالروح.

غرفته مخزن للشاي والسكر لكل المرضى و العاملين، يأتي إلى المستشفى و معه (نصف دستة كوبايات)، يلتزم كل من أفراد الأمن على شراء جريدتي الأخبار والأهرام له يومياً، ليس بهدف الاهتمام بمستقبل المشروعات القومية المحكي عنها، و لكن إنشغالاً على حال فريقه الكروي المفضل(الزمالك) الذي يرى أنه يحمل نفس قدره، يقول: (لعيب بس حظه قليل).

يستقبل (الوافد الجديد) بترحاب وافر ويأخذه دون سابق معرفة في موجة استهزاء بنتائج الأشعة وبكل تفاصيل المرض الذي اصابه قبل ثلاث سنوات، ولا ينسى أن يمازحه (اوعي تفتكر العملية أثرت على مخي، مخي اللي أثر على العملية )

لا يطيل كثيرا بتلك التفاصيل التي يراها كئيبة وينهيها بصوت جهور كأن أحداً قد منحه أثير موجة البرنامج العام بالإذاعة المصرية، فيقول: “الحمدلله … ولله الحمد ..جمال بخير”، تردد انت من خلفه “الحمدلله” وتدعو له ولغيره بالشفاء، فلا ينتظرك ويكمل وصلته الإذاعية وقد حلت به كاملة روح الزعامة والفكاهة: “عاش جمال.. عاش جمال عبدالناصر.. عاشت القومية العربية.. تسقط إسرائيل وعملاء الصهيونية”.

لا تضحك حينها وحدك، فما شجعه ووصل به لأعلى مدارك البهجة، هو توافد الزوار الذي يعتادهم من الغرف المجاورة، أصدقائه من المريضات والمرضى، يقول قوله هذا بينما يشاكسه الجميع وعلى رأسهم جميلة الجميلات “الست نعمات”، وجه رائق فى أوائل الخمسينات، لا زال يحتفظ بكثير من جماله رغم المرض، وابتسامة رائقة تتحول سريعا إلى ضحكة مبهجة، تتغامز هى والآخرين على الرجل المسن الضاحك ويقولون: “رايق كده ليه ياجوجو، اومال لو كانت نتيجة الاشعة حلوة؟”

“جوجو”، كنية لها قصة، أطلقتها عليه إحدى الشابات المرافقات لوالدتها المريضة “، وسحبت منه بعض الأموال ورحلت، فأصبح لقبه الجديد وطرفة الجميع الأثيرة، لا ينزعج من تلاسنهم عليه ولا يحقد على الفتاة بل يعامل ذكراها كما يعامل الحياة التي قذفته بالمرض.

لا يصدق “الوافد الجديد” القادم لتلقي الجرعة الثانية من العلاج، ما تراه عيناه، على مدار شهرين أرهقه الاكتئاب بعد اكتشاف المرض وذبول جسده وسقوط شعره، اعتاد أن يحجز غرفة مميزة بالدور العلوي ولكن شاءت ظروفه أن تجمعه بهذه الصحبة المميزة لعدة ساعات، كانت هي زاده بالأيام التالية لخلق مجتمع جديد، يتزاور معه ويتبادل الخبرة وأرقام الهاتف وعلب الزبادي ثم يتناولون “الرنجة” خلسة من وراء الممرضين والممرضات.

باليوم الأول، لم يخرج صوته إلا وهو ينظر لكف “عم جمال” بعد أن ألقى خطبته العصماء المبهجة، قال : “اللي في إيدك دي سيجارة؟”، رد: “اخيراً نطقت ياواد، افتكرتك أخرس، اسكت خالص ومالكش دعوة بالحكاية دى”، وقبل أن تنهال عليه النصائح من الجميع، وفي ظل الصدمة الخبيئة لنتائج المسح الذري الخامس، قام “زوربا” القسم الوردي أو “عم جمال” بمراقصة سيجارته قبل أن ينسحب من الباب ويغلقه على الجميع ويذهب خلسة إلى سلم الطوارى.

لا يدخن فقط بالسر ولكن عرف الطريق مرة إلى الدرج الخاص بـ”الست سعاد” التي من أجله قامت بحملة موسعة لسحب علب لسجائر من كافة الغرف.

بأحد الأيام حاول الشيخ استدرار مزيد من الاهتمام من قسم التمريض، ألقى بنفسه على الأرض، وصل القسم إلى أعلى درجات الطوارىء، و في الليل أخرج من دولابه الصغير “بدلة سوداء” واقنع باقي الرفاق بالخروج بعد التراضي مع أفراد الأمن لحضور حفل الطبيب شاب “أشرف” بالحي الفاخر القريب، و عادوا من هناك بمقاطع فيديو الرقص للجميع، و في الصباح أصاب عم جمال نوبة تشنج حقيقة بالمخ، استلتزم الأمر أكثر من ربع الساعة حتى اقتنع التمريض أنه لا يمازحههم هذه المرة ايضاً، لم يعد هناك الكثير مما يمكن تقديمه للرجل غير لاصقة طبية لتخفيف الألم، يكتبون له تذاكر الخروج لكنه دائماً ما يفضل أن يعود.

غرف غير مغلقة

وبالطبع لا زال هناك المزيد من القصص التي لا تكفيها السطور منها عدم اقتناع الطبيب أن “أم محمود” سيدة خمسينية لديها 7 أولاد، فجسدها صغير وقصير ولهذا دائماً ما يطلب من التمريض استخدام “حقن الاطفال” من أجل تلقي الجرعة، قادمة من بلدة “العياط” تشكو غياب بعض الأهل عنها، فترد نعمات يا “عيوطة يابتاعة العياط ، كفاية عليكي هم المرض ماتزوديش همك”.

هناك الشاب “محمد” الذي تتفاجىء أنه ليس الأبن الأكبر لـ”عم جمال” لكنه اكتسب عبر الوقت لقب المرافق والممرض للجميع وليس فقط لوالده الذي لا يفضل مخالطة أحد ويطرد إبنه أغلب الوقت من الغرفة، يقيم “محمد” أغلب الوقت لدي “عم جمال” ويشبهان الثنائي “لولي وهاردي” فهما لا يتوقفان عن حبك المقالب للجميع التي يتوقفان عنها إذا جد هم، فيدهشك حينها هذه الخبرة الاستثنائية التي أكتسبها الشاب في مجال “التمريض”.

وهناك في غرفة الست “نعمات” يحضر “الحج حكيم” زوجها، فتتوقف أمام هذه الحالة المتحضرة الفريدة من الحب الاستثنائي المجاهر به بين الزوجين رغم الفارق الواسع بينهما في مستوى التعليم والدخل وكل عطايا الحياة.

يتقبل “الحكيم” المزاح والتغازل خفيف الظل بين زوجته والشيخ الكبير، يضحك الجميع وتظللهم رابطة أقوى قادرة على فرم كل روح مزيفة حول الأخلاق، كل صوت محشرج عن المحارم والاختلاط والحدود

هناك لا إبتذال ولا تقطير، لا تهويل ولا تهوين، لا اساطير حول الصحة، ولا تباكي عليها، لا اصطناع للقبول والرضا ولا اصطناع للقوة.

وهناك أخيراً موجات الألم العاتية التي تعصف فجأة..

غرفة العمليات

فقد كانت تستعد السيدة لإجراء “منظار” للتأكد من درجة تشكل الخلايات اللعينة بالقولون بعد تلقي جرعات العلاج كاملة، تقول لك وهي بكامل بهجتها أمام باب الاشعة : “كل عطيتك حلوة يارب، المرض دي عطيته عشان احنا احبابه، مش بيديه لأي حد”، تخرج وينهار زوجها بكاءاً، يقول الطبيب: “قولون زوجتك الحمدلله أصبح خاليا من المرض ولكن رغم عنا حدث ثقب أثناء الاستكشاف نتيجة الالتواء الشديد به ويجب أن تخضع لعملية جراحية عاجلة”.

تتصل “أم محمود” بـ”أبو محمود” وتخبره أن يحضر فوراً فهي تخاف أن تمر وحدها غداً بنفس التجربة، يهاتف الشاب “محمد” العم “جمال” ليعود، يقف العم “منصور” على باب الغرفة، تخرج “نعمات” بعد ثلاثة ساعات وتقول وهي في مرحلة الإفاقة “يا حبيبي ياربنا راضيين بعطيتك” ويردد الجميع خلفها “الحمدلله”، تدعو لأسماء حاضرة وغير حاضرة بالشفاء ثم تردد وهي تبكي: “مستنياك يا بكرة.. مستنياك يا بكرة”.

ليس مشهداً سينمائيا ولكنها الكلمة الملتصفة بلسانها ـ كما يقول زوجها ـ مع إجراء كل عملية جراحية منذ إصابتها بالمرض اللعين قبل عامين من الآن.

“تنتظر بكرة” كمثلهم جميعا ليحمل الشفاء والرحمة أو الراحة الأخيرة بينما يحاولون صنع يوم منزوع الكآبة ، يخنعون للحظات الوجع والخوف ثم ينفضونها حين يقدرون ويستقبلون القادم.

موجات تلقائية كموجات البحر تذهب وتجىء، يعلوها جميعا دون إدعاء زبد الإيمان مهما اختلفت الأديان.

مساعي دائمة تلقائية لخلق “الألفة” بعد النجاح بقصد أو دون قصد في إحالة المرض رغم بشاعته ومأساويته إلى كجرد “أمر مألوف”.

..

من منا لا يخاف؟ من منا لا  يتمنى؟ من منا لا يعتاد؟ من منا لا يسعى؟ من منا لا ينتمي إلى كل هؤلاء؟

 

Leave a Reply