أصدرت مؤسسة “حرية الفكر والتعبير”، تقريرا عن قرار المجلس الأعلى لتنظيم الصحافة والإعلام، برئاسة الكاتب الصحفي مكرم محمد أحمد، بوقف النشر عن قضية مستشفى 57357.
وأثار القرار الانتقادات والتساؤلات حول دور المجلس الأعلى لتنظيم الصحافة والإعلام، وصلاحياته، ما دفع مكتب النائب العام لإصدار بيانا قال فيه أن قرار وقف النشر الصادر من المجلس “منعدم” وخارج صلاحياته.
وشمل تقرير “حرية الفكر والتعبير”، أسئلة وأجوبة حول القرار، مشيرا إلى إن قرار وقف النشر ليس الأول الذي يصدر من المجلس الأعلى لتنظيم الصحافة والإعلام.
يذكر أن النائب العام طالب مكرم محمد أحمد بالمثول أمام نيابة أمن الدولة العليا طوارئ، لشرح حيثيات قراره التي اعتبرها النائب العام، تغولا على حق وسلطة النائب العام والسلطة التنفيذية في قرارات حظر ووقف النشر.
وأشار التقرير إلى أنها ليست المرة الأولى التي يصدر فيها قرارا مشابها من الأعلى للإعلام، حيث في ديسمبر من العام الماضي صدر قرار بوقف النشر عن قضية المثلية الجنسية أو نشر علم قوس قذح.
وفي ختام التقرير، أوصت المؤسسة كافة الجهات المعنية، وعلى رأسها مجلس النوا6، وكذلك مجلس الدولة بوضع تعريف قانوني واضح ومحدد لمعايير وأصول المهنة وأخلاقياتها، ومقتضيات الأمن القومي.
وإلى نص القرار:
لماذا أصدر المجلس القرار؟
أكد رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام مكرم محمد أحمد، في أكثر من تصريح صحفي: “قررنا وقف نشر ما يخص تلك الأزمة حتى لا يتأثر الصرح بتلك المعركة، التي لا يجب أن تستمر للأبد، خاصة بعد تطور الأمر إلى حد التنابذ والسباب”، وأن استمرار هذه المعركة دون إعطاء الفرصة للجنة الوزارية لإبداء رأيها سيضر بالعمل الخيري في مصر. وأشار إلى خطورة هذا الأمر واحتمالية تسببه في عزوف المواطنين عن التبرع للمؤسسات الخيرية، التي يعتمد عليها ملايين آخرون للحصول على الخدمات المختلفة، منوهًا إلى وجود دلائل تفيد بانخفاض معدل التبرعات في بعض المؤسسات.
أي نوع هذا من القرارات الإدارية؟
الواضح أن الأمر لم يكُن عقوبة جزائية أو تأديبية، حيث اشترطت لائحة الجزاءات التي وضعها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام لتوقيع أية عقوبات من الواردة في بنود اللائحة أن تكون بناءً على تحقيقات تقوم بها لجان المجلس المختصة وهي لجنة الشكاوى ولجنة الرصد والتقييم الإعلامي.
إلا أن قرار المجلس _بحسب ما هو منشور ومتداول_ لم يعتمد على أية تحقيقات أجرتها لجان المجلس في هذا الشأن للوقوف على طبيعة المخالفات والانتهاكات التي مارستها الوسائل والمؤسسات الصحفية أو الإعلامية التي تناولت القضية. كذلك لم يُشر المجلس في قراره أو خطابه التوضيحي إلى النائب العام إلى أية شكاوى قد تلقاها بشأن أية مخالفات أو انتهاكات اشتملت عليها تغطية الصحافة والإعلام لهذه القضية. إذن، يبدو أن القرار كان تدبيرًا احترازيًّا لحماية التحقيقات الإدارية من أن تتأثر بعملية النشر حول القضية، وهو ما يؤكده تصريح رئيس المجلس، أعلاه.
ما هي سلطة المجلس في إصدار القرارات التدابيرية (التنظيمية)؟
أعطت المادة الثالثة من قانون التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام رقم 92 لسنة 2016 الحق للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في سبيل تحقيق أهدافه لضمان حماية حرية الصحافة والإعلام أن يضمن التزام الوسائل والمؤسسات الصحفية والإعلامية بمعايير وأصول المهنة وأخلاقياتها. وكذلك ضمان التزام الوسائل والمؤسسات الإعلامية والصحفية بمقتضيات الأمن القومي.
كذلك أعطت المادة 26 البند الثالث من قانون التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام، الحق للمجلس أن يمنع بث أو نشر المادة الصحفية أو الإعلامية لفترة محددة أو بصفة دائمة، وذلك في حالة عدم التزام الوسائل والمؤسسات الإعلامية والصحفية بمعايير وأصول المهنة وأخلاقياتها، أو حال عدم التزامها بمقتضيات الأمن القومي.
وهو ما أشار إليه خطاب رئيس الأعلى للإعلام إلى النائب العام الذي حرص على تأكيد قانونية قرار المجلس بوقف النشر في القضية استنادًا إلى المواد (2،3،26).
الخلاصة: أن القانون أعطى للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام الحق في منع النشر الصحفي أو البث الإعلامي لأي محتوًى يرى فيه مُخالفة لأصول المهنة وأخلاقياتها وأعرافها المكتوبة (الأكواد) أو يرى أنها قد تُلحِق الضرر بالأمن القومي، وهنا تكمُن كُل المشكلة، أنه في ظل غياب الوضوح عن النص التشريعي يُصبح النص عُرضة لتدخل الأهواء والأذواق والتوجهات في تفسيره، وهو ما حدث بالضبط في حالة قرار الأعلى للإعلام بوقف النشر حول أزمة مستشفى 57357 لعلاج سرطان الأطفال.
حيث أعطى القانون ذلك الحق للمجلس مع سُلطة تقديرية مُطلقة في تعريف ماهية المادة الصحفية أو الإعلامية التي تمثِّل (مخالفة لأصول المهنة وأخلاقياتها) أو تُلحِق (ضررًا بالأمن القومي) وهي المصطلحات الفضفاضة والواسعة التي لا يوجد تعريف واضح ومحدد لها في القوانين المصرية، فقد اعتبر المجلس مستشفى 57357 لعلاج سرطان الأطفال صرحًا طبيًّا كبيرًا وأن الطعن فيه يُلحِق الضرر بالمصلحة العليا للبلاد ومن ثم رأى وقف النشر تمامًا في القضية إلى حين انتهاء تحقيقات اللجنة الوزارية المنعقدة بشأنها.
للأسف يخضع هذا للجدل حول تفسير مواد القانون، المتعارف عليها، أنه حتى يكون للمجلس الحق في إعمال تلك المواد يجب أن تكون هناك واقعة محددة من مؤسسة محددة تشكل مخالفة للقانون، وتتطلب توقيع الجزاء عليها، وهو ما لم يفصح عنه قرار الأعلى للإعلام. وإنما جاء القرار عامًّا، يستهدف المواد الصحفية أو الإعلامية التي لم يتم نشرها بعد، والتي قد تحتوي على وقائع وحقائق كاشفة للرأي العام، ولا تحمل تنابذًا أو سبابًا، ولا تُمثِّل انتهاكًا لأصول المهنة وأخلاقياتها.
ما يؤكد ذلك أن لائحة الجزاءات التي أصدرها المجلس الأعلى للإعلام تعطي له الحق في مواضع كثيرة أن يُقرِّر وقف بث برنامج بعينه أو باب/صفحة صحفية بعينها وبصفة مؤقتة في حال ارتكاب مخالفات محددة نصَّت عليها اللائحة، ولم تحتوِ اللائحة نهائيًّا على أي نص يُتيح للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام وقف النشر أو البث للـ”المحتوى” الصحفي والإعلامي بشكل عام.
بمعنًى آخر، أنه لا عقوبة أو جزاء إلا على فعل ما بعينه أثبتت التحقيقات أنه يُمثِّل مخالفة أو انتهاكًا، ولا يجوز توقيع أي جزاء أو عقوبة على “قضايا” أو “حملات” صحفية أو إعلامية قائمة. وهو ما يضرب في قانونية قرار المجلس بشكل أو بآخر.
هل يُمكن الاستئناف أو الطعن على قرارات الأعلى للإعلام؟
نصَّت المادة 18 البند الثاني من لائحة الجزاءات، التي أصدرها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام على:
1- يجوز للمجلس الإعفاء من العقوبة أو جزء منها في حالة تقديم المخالف لالتماس، ويراعي المجلس في ذلك الملابسات التي أحاطت بالمخالفة _إن وجدت_ …”.
إلا أن قرار المجلس لم يكن جزاءً تأديبيًّا كما أوضحنا سلفًا، ولم تذكر اللائحة كيفية الالتماس أو التظلم من القرارات التدابيرية، والتي لا يبدو أن هناك مسارًا إداريًّا للتظلم منها، خاصة وأن المجلس هو السلطة الإدارية الأعلى بين الهيئات المسؤولة عن تنظيم المشهد الصحفي والإعلامي، ولا توجد جهة إدارية أعلى يُمكن التظلم خلالها.
أما بالنسبة إلى الطعن، وباعتبار قرار الأعلى للإعلام قرارًا إداريًّا، فوفقًا للمادة 97 من الدستور، والتي تنص على أن: “التقاضي حق مصون ومكفول للكافة، وتلتزم الدولة بتقريب جهات التقاضي، وتعمل على سرعة الفصل في القضايا، ويحظر تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، ولا يحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعي، والمحاكـم الاستثنائية محظورة”. فإن الطعن أمام القضاء الإداري (مجلس الدولة) هو الوسيلة التي حددها الدستور للفصل في قانونية القرارات الإدارية، مثل: القرار الذي نناقشه. مع العلم أن هذا الطريق قد يتطلب الكثير من الوقت الذي يجعل الأهمية الآنية للطعن غير متوفرة.
إذًا، من له حق الطعن؟ ترى مؤسسة حرية الفكر والتعبير أن لكل مواطن ولكل صحفي أو إعلامي أو وسيلة أو مؤسسة صحفية أو إعلامية الحق في الطعن، باعتبار القرار تعديًا على حق الجمهور والصحفيين في المعرفة الذي حصَّنه الدستور المصري (2014) وقانون الصحافة رقم 96 لسنة 1996.
هل يحق للنيابة العامة إلغاء قرار المجلس الأعلى للإعلام؟
جاء خطاب النائب العام حاسمًا بشأن قرار “الأعلى للإعلام” بوقف النشر حول قضية مستشفى 57357 حيث اعتبره “منعدمًا”، “لا أثر له” وطالب وسائل الإعلام بعدم الالتفات إليه، ذلك رغم أن القانون أكد بشكل واضح على أن قرارات المجلس لا يجوز إلغاؤها إلا بطريقين:
أولهما أن يسحب المجلس قراره، وثانيهما أن تقضي المحكمة المختصة (مجلس الدولة) بعدم قانونية القرار بِناءً على طعن يُقدَّم إليها.
وبالتالي فقرار المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام يظل ساريًا حتى يحدث ذلك، ولا يُمكن اعتبار خطاب النائب العام وقراره بمثول مكرم محمد أحمد رئيس المجلس أمام نيابة أمن الدولة العليا إلغاءً لقرار المجلس بوقف النشر حول أزمة المستشفى.
وتؤكد مؤسسة حرية الفكر والتعبير أن الطريق القانوني الوحيد المتاح لإلغاء قرار “الأعلى للإعلام” هو إقامة دعوى لإلغاء القرار أمام محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة، وهو ما يُعد اختصامًا للقرار وليس لمُصدِر القرار، وتنظر المحكمة حينها مدى مشروعية القرار وتوافقه مع القانون.
هل يحق للنيابة العامة إحالة رئيس “الأعلى للإعلام” إلى التحقيق “بصفته” أمام نيابة أمن الدولة العليا؟
بحسب القانون، لا يجوز مساءلة رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام “بصفته” أمام أي جهة تحقيق إدارية، ولا يحق للنائب العام التحقيق مع رئيس المجلس بمناسبة ممارسة اختصاصاته حتى وإن أخطأ في تفسير أو تطبيق نص قانوني. ولا يمكن فهم مثوله أمام نيابة أمن الدولة العليا في هذه الحالة إلا على سبيل الاستدلال والوقوف على ما إذا كان هناك تعدٍّ من قبل المجلس الأعلى للإعلام ورئيسه على سلطات النيابة العامة.
وتأكيدًا على ذلك يقول حسن الأزهر، مدير الوحدة القانونية بمؤسسة حرية الفكر والتعبير؛ أن المسائلة التأديبية أو الإدارية هي من اختصاص ( جهات التحقيق الداخلية -النيابة الإدارية – مجالس التأديب والمحاكم التأديبية) وذلك بشرط اعتبار رئيس المجلس موظف عام ويخضع لقانون يُنظِّم إجراءات المسائلة والتأديب. وبحسب قانون التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام فإنه لا يوجد ثمة نص صريح لتنظيم مسائلة رئيس المجلس تحت أي بند أمام النائب العام، ذلك بخلاف أن المجلس وأعضائه غير خاضعين للقوانين المنظمة للعاملين في الدولة، نظرًا لكون المجلس جهة مستقلة بحسب المادة الثانية من القانون رقم 92 لسنة 2016.
وبافتراض أن رئيس المجلس موظف عام -وهو افتراض خاطئ- يجب أن يكون هناك مخالفة مالية تستوجب التحقيق، أو آن تكون المخالفة المرتكبة تمثل جريمة تأديبية وجنائية في نفس الوقت، وحينئذ؛ يجب أن تكون الجهة الإدارية العليا أو جهة التحقيق الإدارية هي من يقوم بتحريك الاتهام أمام النيابة.
جدير بالذكر، أن هناك تضاربًا كبيرًا حول سبب استدعاء النائب العام لـ”مكرم” للمثول أمام نيابة أمن الدولة العليا، هل هو مثول للتحقيق في واقعة قراره بوقف النشر؟ نظرًا إلى ما يمثله من اعتداءٍ على سلطة النيابة العامة كما ذكر بيان النائب العام، أم أنه مثول على سبيل الاستدلال فقط؟ كما صرَّح مكرم ونقيب الصحفيين عبد المحسن سلامة، بعد مثول الأول أمام المحامي العام في جلسة استغرقت 13 دقيقة لم توجِّه خلالها النيابة أية اتهامات إلى مكرم.
يؤكد هذا التضارب قرار النائب العام بحظر النشر في التحقيقات التي تتم مع رئيس الأعلى للإعلام، فإذا كان مثوله وفقط على سبيل الاستدلال، فلماذا قرار حظر النشر؟! وإن كان على سبيل التحقيق فما هو قرار النيابة بشأنه؟ّ!
في كل الأحوال فإن قرار حظر النشر لم يتم الالتزام به، فقد أصدر نقيب الصحفيين بيانًا حول طبيعة الجلسة التي جرت مع رئيس الأعلى للإعلام وكذلك تناولت مختلف وسائل الصحافة والإعلام تصريحات “مكرم” بعد انتهاء الجلسة عما جرى فيها. في الوقت الذي لم تُصدِر فيها النيابة العامة بيانًا توضِّح فيه ما جرى في الجلسة وما آلت إليه القضية.
هل يتعارض قرار الأعلى للإعلام مع حق الجمهور في المعرفة وحق الصحفيين والإعلاميين في الوصول إلى المعلومات ونقلها وتداولها؟
يبدو أن رغبة المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في إحكام سلطاته الرقابية على المشهد الصحفي والإعلامي جعلته يتجاهل الخط الفاصل بين سُلطة المجلس التقديرية في إصدار قرارات تدابيرية بمنع النشر في قضية ما مطروحة على الرأي العام، وبين حق جمهور المواطنين في المعرفة والذي لا ينفصل عن حقهم في التعبير عن آرائهم بكل الصور التي يرونها مناسبة، وهي الحقوق التي حصَّنها الدستور المصري (2014) في مواده (65،68).
ويستمد الصحفي حقه في الحصول على المعلومات ونشرها من حق المواطن في المعرفة، إذ تمثل الصحافة الجسر بين الجمهور وبين الأحداث والوقائع التي تجري في الأماكن المختلفة[2]، ويُعرِّف جانب من الفقه القانوني المصري حق الصحفي في الحصول على المعلومات بأنه “تمكين الصحفي من مصادر الأخبار والمعلومات والإحصاءات والاستفسار عنها، والاطلاع على كافة الوثائق الرسمية غير المحظورة، وذلك دون عائق يحول بينه وبين حرية تداول المعلومات أو يحول دون تكافؤ الفرص بينه وبين الزملاء في جميع الصحف”.
ويُنظِّم الصحافة في مصر القانون رقم 96 لسنة 1996 والمعروف بقانون تنظيم الصحافة (يجري تعديله داخل البرلمان حاليًّا)، وهو القانون الذي يحمي في مواده (8، 7) على الترتيب حق الصحفي في الحصول على المعلومات وكذلك حماية مصادر معلوماته.
إلا أن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام تجاوز كل تلك التحصينات ونصَّب نفسه مُفوَضًا للمعلومات، يُحدد ما يصلُح للنشر وما يجب منعه، وفي ظل غياب قانون يُنظِّم الحق في الحصول على المعلومات حتى اليوم رغم إقرار الدستور للحق وتحصينه في المادة (68) منه، قرر المجلس أن يُباشِر هذا الدور بالإنابة، ورغم ذلك جاءت حيثياته لقرار وقف النشر قاصرة وغير كافية وتحمل الكثير من العوار، ورغم ادعائها بالحفاظ على مصلحة البلاد العليا، فإنه جاء ضارًّا بالمصلحة العامة، فنحن أمام قضية تحتمل وجود شُبهات فساد مالي تخُص أموال تبرعات المواطنين لأحد الصروح الطبية الخيرية، وهو أمر قيد التحقيق من قِبَل لجنة وزارية (حكومية) وليس أمام النيابة العامة أو منصات القضاء، ما يتطلب _في بعض الأحيان وطبقًا لقواعد مُعينة_ إبقاء المعلومات حوله سرية. وبالتالي فإن حق الجمهور في معرفة كل ما يدور في التحقيقات أمرًا ضروريًّا لتحقيق الشفافية والمحاسبة، وقد يكون التستر عليها بمنعها من النشر أحد أوجه الفساد في حد ذاته.
اللافت إلى الانتباه، أن المجلس الأعلى للإعلام شكَّل لجنة انتهت من وضع مسودة لقانون حرية تداول المعلومات بغية عرضه على البرلمان لإقراره، إلا أن المجلس لم يبذُل أي عناء قبل إصدار قراره بوقف النشر، بالنظر إلى المبادئ الإرشادية التي وضعتها منظمة المادة 19 المتعلقة بحرية تداول المعلومات والتي تبناها المقرر الخاص لحرية الرأي والتعبير بالأمم المتحدة في تقريره لعام 2000، والتي نصَّ المبدأ الثامن منها والمعنون بـ”أسبقية الكشف” على ضرورة أن تُفسَّر جميع القوانين الوطنية والقرارات الإدارية في ضوء التشريع المتعلق بحرية تداول المعلومات، وفي حالة تعذر التوفيق، يجب أن تخضع جميع التشريعات والقرارات السابقة على تشريع حرية تداول المعلومات للمبادئ الواردة في هذا التشريع سواء المتعلقة بالإفصاح أو بالاستثناءات.
وبما أن الإفصاح عن المعلومات والتمكبن من الوصول إليها ونقلها وتداولها هو الأصل طبقًا للمادة الدستورية، يكون المنع هنا هو الاستثناء، وقد تضمن المبدأ الرابع والمعنون بـ”نطاق الاستثناءات المحدود” أنه على الجهات الحكومية أن تستجيب لجميع الطلبات الفردية للحصول على المعلومات، إلا إذا ارتأت الجهة أن هذه المعلومات تقع ضمن نطاق الاستثناءات المحدود. ولا يُمكن رفض كشف المعلومات إلا إذا أثبتت الجهة الحكومية أن المعلومات المطلوبة تتوافق مع المعيار المسمى بـ(الاختبار الصارم الثلاثي الأقسام)، الذي يتضمن الآتي:
يجب أن يرتبط الإفصاح عن المعلومات بالهدف الشرعي المذكور في القانون. أن يكون الإفصاح عن المعلومات ضارًّا بالهدف من إبقاء هذه المعلومات سرية. أن يكون الضرر المترتب عن الإفصاح يفوق المصلحة العامة التي قد تتحقق منه.
وبتطبيق الاختبار الثلاثي الأقسام على حالة قرار “الأعلى للإعلام” بمنع النشر في قضية مستشفى 57357 الذي أكد المجلس في خطابه التوضيحي إلى النائب العام أنه يهدُف في الأساس إلى تحصين أعمال لجنة التحقيق الوزارية حتى لا تتأثر بما يُنشر في هذا الشأن، نجد أن الإفصاح عن كافة تفاصيل أعمال لجنة التحقيق وكذلك السماح لكافة الأطراف بتناول الموضوع بالنقاش وكشف المعلومات والحقائق ولا سيَّما الصحفيين والإعلاميين ليس ضارًّا بالهدف من إبقاء هذه المعلومات سرية، والهدف هنا هو حماية عملية التبرُّع للمؤساسات الخيرية ومنع الضرر المُحتمل من النشر وهو عزوف الناس عن التبرُّع، ولكن بالعكس يعطي ذلك الإفصاح الثقة لدى جمهور المواطنين في أن هناك سياسات واضحة وصارمة للمحاسبة والشفافية.
كما أن المصلحة العامة هنا تقتضي الكشف عن كافة التفاصيل للتيقن من شُبهات الفساد المالي التي تحوم حول المستشفى ويُعد هنا المنع ضارًّا بالمصلحة العامة على عكس ما ذكره القرار في حيثياته.
هل هذه هي المرة الأولى التي يُصدِر فيها “الأعلى للإعلام” قرارًا بوقف النشر؟
مع الإختلاف، إلا أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يُصدر فيها المجلس الأعلى للإعلام قرارًا بحظر النشر في قضية ما، ففي 30 سبتمبر من العام الماضي، أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، قرارًا بحظر الترويج لشعارات المثليين أو نشرها، مشددًا على أن “المثلية مرض وعار يحسن التستر عليه لا الترويج لإشاعته، وذلك إلى أن يتم علاجه والتخلص من عاره”، مشيرًا إلى أن ذلك يأتي حفاظًا على السير والأخلاق العامة واحترامًا لقيم المجتمع وعقائده الصحيحة، موضحًا أن الترويج لهذه الشعارات هو إفساد للمجتمع ينبغي أن يلقى جزاءه. ونص قرار المجلس على أن “يُحظَر ظهور المثليين في أيٍّ من أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، إلا أن يكون اعترافًا بخطأ السلوك وتوبة عنه”.
هذا القرار أثار جدلًا كبيرًا حينها، إلا أن اللافت إلى النظر أن النيابة العامة لم تُعلِّق من قريب أو بعيد على القرار، فيما نعتبره بشكل غير مباشر رضاءً عن القرار وإقرارًا لقانونيته وأحقية المجلس في إصداره!.
في هذه الحالة حظر المجلس “الترويج” لشعارات بعينها بالاستناد إلى نفس العوار في القانون ونفس المواد تقريبًا، إلى جانب حظر فئة اجتماعية بعينها من الظهور في مختلف وسائل الإعلام إلا باشتراطات غير مقبولة، وهو ما كان مُقدمة سمح التغاضي عنها للمجلس الأعلى بأن يتمادى في استغلال تفسير القانون بالشكل الذي يسمح له بفرض مزيد من سلطاته الرقابية على كل ما يخرج إلى الجمهور.
والنتيجة، القرار محل النقاش، ويُشير ذلك إلى أن المجلس منذ تأسيسه يسعى لتطوير أدواته القانونية التي تجعل له الشخصية بين أوساط الجماعة الصحفية والإعلامية أفرادًا ومؤسسات، وأن القرار لم يكن استثناء في ثقافة عمل المجلس.