تبدأ القصة بتعرض صديق شخصي لي كان في زيارة دراسية في بريطانيا، وتحديداً في مدينة درم هو وصديق له فلسطيني الجنسية لاعتداء عنصري من شاب إنجليزي يدعى بيت وآخرين، وربما تطور الأمر إلى اعتداء بالضرب، وكانت تلك الواقعة في نهاية 2017 . فلم يترك صديقي المصري حقه وتقدم بشكوى ضد المعتدي، وتم بالفعل التحقيق في الشكوى، والقبض على المتهم، الذي اعترف بأنه قام بذلك الفعل هو وآخرين، ووفقا للنظام القضائي البريطاني فقد كان المتهم على وشك الحكم عليه بالسجن لاعترافه بالواقعة، ولسبق قيامه بواقعة مماثلة، وهذا ما يمثل دور القانون وسرعة إنجاز القضايا، مع احترام كافة حقوق المتهم والمجني عليه كاملة.
ثم يأتي الدور الإنساني للمجني عليه “صديقي” وعلى حسب قوله نصاً :- قمت بالإدلاء بشهادتي في محكمة دورام في شمال انجلترا بخصوص قضية جريمة الكراهية التي وقعت أنا وزميل الجامعة الفلسطيني ضحايا لها. وبعد أن قام قاضي المحكمة بالاستجابة لطلباتي في الجلسة السابقة، والأمر بتمكيني من زيارة السجن الذي يقبع فيه أحد المعتدين الثلاثة والذي كان يواجه حكم بالسجن شبه مؤكد بعد إدانته، وسابق حصوله على حكم مع عدم النفاذ في قضية أخرى. وهذا النوع من جلسات “الحقيقة والمصالحة” التي من النادر حدوثها هنا في النظام القضائي الانجليزي، تطلعت وأصررت كثيرًا على تحقيقها، رغم إقامتي في أمريكا خلال الشهور الماضية. وعدم حاجتي للعودة إلى انجلترا بشكل ملّح، إلا أنها كانت تعكس إيماني بأن العدالة يمكن أن تتحقق وتتجسد بأشكال مختلفة، وليست قاصرة على العقوبة، والمتمثلة في الغالب في الزج بالجناة للسجن.
وتم تمكينه من زيارة المتهم في محبسه، وقدم المتهم اعتذاره عن فعلته، وفي حضور أحد ضباط السجن، أقر المصري بأنه لم يقبل ولم يرفض هذا الاعتذار، والاكتفاء بأن يجعل رده ” كمجني عليه مشروطاً على سلوك المتهم في المستقبل، وكما قال أيضا صديقي المجني عليه :- ذكرت هذه النتيجة أمام المحكمة اليوم،الموافق 24 أغسطس لسنة 2018 ، مؤكدًا على رغبتي في أن يتم إعمال الأدوات الإصلاحية التي اتفقنا عليها، وتجنب السجن، خصوصًا مع الظروف الخاصة التي يعاني منها المتهم الذي يبلغ من العمر 21 عامًا فقط، وبعد أن أنجبت رفيقته أول طفلة لهما، بعد أسابيع من الجريمة. مطالبًا بتعليق أي حكم بالسجن وجعله مشروطًا على حسن سيره خلال السنوات القادمة.
وانتهت جلسة المحكمة بقيام القاضي بإلقاء ديباجة الحكم ونصه، والثناء على ما وصفه بموقف إنساني ونبيل لم يشهده من قبل، مما جعله مضطرًا أن يجعل حكم السجن مع عدم النفاذ، متوعدًا المتهم بإضافة المدة لأي مدة قد يتم إدانته عليها في المستقبل.
إلى هنا تنتهي قصة نبيلة وتصرف إنساني راقي من المجني عليه، كانت ظروف المتهم الاجتماعية وحداثة سنه ، البالغ إحدى وعشرين عاماً، وأنه صار لديه مولود خلال الشهر الأخير للمحاكمة، من أهم الأسباب، علاوة على ما ذكره الصديق، من تجاربه عن أحوال العدالة في مصر خلال الفترات الأخيرة، والتي أعقبت ثورة يناير.
وأهم ما يمكننا استخلاصه والاستفادة منه من هذه القصة الواقعية، وما يمكننا أن نجعله محلاً للتجريب في النموذج القضائي المصري، أولاً :- سرعة القبض والتحري الحقيقي عن موضوع القضية، وكذلك سرعة الإحالة إلى القضاء، وإيداع المتهم السجن” لكونه قد سبق له القيام بفعل مماثل، وهو ما يمثل تطبيق مهني للقانون من قاضي محترف لا يعرف الميل أو الهوى أو التلاعب بالنصوص، وخصوصاً إذا ما نظرنا إلى وضعية المجني عليهما( مصري وفلسطيني ). وثاني مستخلصات هذه القصة، سرعة الإنجاز القضائي في جلسات متتابعة وتأجيلات مرتبة، مع إتاحة الفرصة لأطرف الخصومة بالحصول على كافة حقوقهم القانونية بداية من الاطلاع، وحضور الجلسات، وإتاحة الفرصة لتقديم دفاعاتهم وحججهم، وهو ما يُطلق عليه بالعدالة الناجزة، وبشكل خاص وقتما تمسك المجني عليه بحقه في عقد جلسة مواجهة ومصارحة مع المتهم داخل السجن، مع العلم بأنه من الأمور التي لم يلجاء إليها القضاء إلا نادراً، ولكن القاضي قد امتثل لطلب المجني عليه، ثم التزام القاضي بنتيجة هذه الجلسة وبرغبة المجني عليه في تعليق الحكم على تصرفات المتهم المستقبلية، مراعاة لظروفه الإنسانية، وهو ما ظهر في ما قضى به القاضي في الجلية الختامية بالحكم على بيت ” المتهم ” بالسجن لمدة ستة أشهر خلف القضبان بتهمة الإخلال بطلبية مع وقف التنفيذ وثلاثة أشهر أخرى للاشتراك في اعتداء، وقام القاضي بتعليق الحكم مؤقتاً لمدة عامين، ثم إشادة القاضي بالموقف النبيل والإنساني للمجني عليه علناً وفي منطوق الحكم، وأن ذلك الموقف كان هو السبب في تحول الحكم من السجن إلى تفعيل ما يسمى بالأدوات الإصلاحية حيال المتهم. وهذا ما يمثل ميزة إضافية في هذا النظام القضائي، وقت تفعيله للعداله، أو استخدامه للنصوص القانونية، وعدم اجتزأ الموقف عند حدود ورقية أو نصية جافة فقط، والأجمل من ذلك وجود تلك الأدوات الإصلاحية في المنظومة القانونية.
ولكن ما أقسى أن تقف العدالة عند حدود رول الجلسة الذي يفوق 300 قضية يجب على القاضي الفصل فيها في قاعات لا تصلح لأن تكون مكاناً للعدالة، مع ازدحام تام من الحاضرين، وعدم تفعيل كامل لحقوق الدفاع، وتكبيل تلك الحقوق بالعديد من الإجراءات الروتينية، والوقوف على أبواب القائمين على تنفيذ تلك الطلبات، أو الوقوف في طوابير طويلة لسداد مبالغ مالية للحصول على شئ أو إجراء من إجراءات المحاكمة، والذي يتوقف في معظم الأوقات على تأشيرة من أحد وكلاء النائب العام، ثم كيفية تعامل الموظف مع المحامي أو مع أي طرف من أطراف التقاضي بشخصه، كلها أمور تخرج العدالة ذاتها عن سياقها الحقيقي، وتُبعد القانوني عن مساره الاجتماعي وكونه صالحاً لأن يكون سيد الموقف وفقاً للتعبير الدستوري ” سيادة القانون “، وتجعل الناس لا ترغب في الحصول على الترضية القضائية المتمثلة في اللجوء لأنظمة قضائية لا تتطور مع تطور المجتمعات، ولا تتماشى مع الاعتبارات الإنسانية.
ولا يسعني هنا أن أتقدم لصديقي بمزيد من الاحترام والتوقير والتهنئة على مثابرته، وخوضه تلك التجربة، وتفعيله للدور الإنساني الموجود في القانون البريطاني والغائب عنا، ولكني أعتصر داخلياً كمواطن مصري كان يحلم بأن تكون أمته هي أرقى الأمم ، وأن يكون شعبه هو أفضل الشعوب.