وفاء صبري تكتب: حطموا أصنامكم

رأي

اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي وعناوين الصحف والمواقع الإليكترونية بأخبار عن إتهام إعلامي شهير في قضايا تحرش جنسي، وكان ذلك مثار صدمة للجماهير العريضة من محبيه الذين انبروا للدفاع عنه وتنزهه عن هذه التهم المخلة التي لا تليق في نظرهم بشخصه، ولا تتسق مع هالة الإعلامي النجم القابض بقوة على مبادئ العدل والحرية والديمقراطية في مواجهة قوى القهر والاستبداد، فاصدروا حكمهم المسبق ببراءته قبل البدء في التحقيقات الرسمية حول التهم المنسوبة إليه.

وعلى الجانب الآخر تهلل كارهي هذا الإعلامي الشهير لمواقفه السياسية المعارضة عند الإعلان عن اتهامه بالتحرش، وسحب بعضهم تهمة الازدواجية والانحلال على التيار السياسي المعارض الذي ينتمي إليه كله.

وفي موقف مماثل منذ أيام قليلة تم اتهام صحفي آخر، عُرف بولائِه الشديد غير المشروط للنظام الحاكم وبهجومه الشرس على أي معارضٍ له، بنفس التهمة المشينة، وهي التحرش بزميلة له في العمل. فكان رد الفعل متطابقا، مريديه يدافعون عنه بشدة وينكرون عنه هذه الشبهة، وكارهيه يوصمونه ويرونه أهلاً لمثل هذه التصرفات غير اللائقة.

 في حقيقة الأمر، كان رد فعل المحبين والكارهين من الجانبين تجاه الواقعتين مبالغاً فيه وفي غير محله. ففي حالة الإعلامي الشهير، مواقفه السياسية التي نحترمها وتصديه للدفاع عن الحق والعدل والديمقراطية لا يصنع منه نجماً منزهاً عن الخطأ، ولا تجعله نصف إله يبرأ من أخطاء البشر.

فالإنسان وتصرفاته ومواقفه ليست وحدة كاملة لا تتجزأ. قد تكون مواقفه السياسية محترمة وصلبة، لا يحيد عنها ولا يخضع لتنازلات أو مواءمات بشأنها لأغراض أو أطماع شخصية، لكن من الوارد أن يشوبه نواقص ويكون له جوانب شخصية أخرى غير ظاهرة لمعجبيه.

كذلك الصحفي الذي لا نتفق مع مواقفه السياسية ولا نحترم أسلوبه في التنكيل بالمعارضة وتشويهها، قد يكون شخصاً ملتزماً في تعاملاته مع الجنس الآخر. لا تذر وازرة وزر أخرى، ولا يوجد إنسان كله خير مطلق أو شر مطلق. نعم الداخليات والتفاصيل الشخصية قد تُصدمنا وقد تتعارض مع الصورة الذهنية التي نحب أن نرسمها لأبطالنا ومشاهيرنا.

لا تؤلهوا الأشخاص… لأنه لا يوجد إنسان معصوم من الخطأ، هذه هي آفة مجتمعاتنا، نتعامل مع المشاهير والشخصيات العامة وكأنهم آلهةً منزهةً فلا نصدق زلاتهم، ولا نجرؤ على لومهم حين يخطئون، نجعلهم فوق مستوى الشبهات ونضعهم في مكانة فوق المحاسبة، فنُجرم من يتهمهم، ونُجلد من يضعه حظه التعس في خلافٍ معهم، فنتكالب عليه ونحكم ضده لأنه تجرأ على الأصنام التي نصنعها ونعبدها لهؤلاء المشاهير.

تحررت المجتمعات الغربية من هذه الآفة، فأصبحوا على العكس منا أكثر قسوة مع المشاهير حين يثبت خطأهم. يعلمون جيدا أن هؤلاء بشر قد يخطئون، ولا يقبلون أن يخطأ أحد منهم دون أن يعترف بخطيئته ويعتذر عنها. المعيار هناك هو الصدق، هو الاعتراف بالخطأ والاعتذار من الجماهير التي صنعت شهرتهم ووضعت ثقتها فيهم.

أما نحن فمازلنا نقدم لأصنامنا قرابين العفو وصكوك الغفران مقدماً على أية خطيئة يقترفونها بدون تحقيق أو قرائن أو منح الفرصة لخصومهم للدفاع عن أنفسهم.

تابع أغلبنا فضيحة علاقة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون بالمتدربة الشابة بالبيت الأبيض مونيكا لوينسكي، حين اتهمته وهو في أوج شعبيته بالتحرش بها، فلم تنبري الصحافة الأمريكية أو مؤيدي الرئيس للدفاع عنه واتهام المتدربة بالكذب والعهر.

لم يقر مؤيديه بأن الرئيس لا يمكن أن يصدر منه ذلك، ولم يستبق الرأي العام هناك الحكم ويقطع بأن الفتاة هي العاهرة التي تتجنى عليه. هل يمكن لنا أن نتصور مصير هذه الشابة إذا حدثت مثل هذه الواقعة في مجتمعاتنا التي تجلد الضحية في مواجهة شخصية شهيرة؟ ما حدث هناك كان العكس تماما.

أُجبِر الرئيس على الاعتراف بخطئه وقام بالاعتذار للشعب الأمريكي الذي قبِل اعتذاره واستكمل فترة رئاسته لأن الجماهير هناك تعي إنه ليس إلهاً، وتُدرك إنه إنساناً قد يضعف ويُخطئ، يمكن أن تسمح له بالخطأ، لكنها لا تسمح له بالكذب والمكابرة وظلم الغير، وتتفهم كذلك إنه قد يكون سياسياً فذاً ورئيساً ناجحاً، وهو أيضاً رجل أخطأ وضعف أمام رغباته، لأنه بالطبع ليس إلهاً منزهاً.

آما آن لنا أن نضع كل إنسان في قدره الحقيقي ونتوقف عن صنع آلهة ًمن بشرِ خطائين، مثلنا لنرى كل إنسان كما هو بمميزاته ونواقصه وحسناته وعيوبه.

 لا يوجد إنسان كامل، ولا إنسان معصوم من الخطأ، بل يوجد لدينا أصنام نصنعها بأيدينا ثم نُصدم حين ينكشف لنا وجههم البشري، فنرفض التصديق ونرجم ضحاياهم بدلا من محاسبتهم هم.

Leave a Reply