بدا منفعلاً بشدة للخلاف بين الثرى الخليجى وطليقته المطربة المصرية .. وخاطبنى مؤنباً (لماذا لا تشارك بقلمك دفاعاً عن عِرض مصر؟) .. قلتُ له (إنه عِرضُ المطربة .. أما عِرض مصر فقد انتُهِك يوم تم التفريط فى أرض مصر .. ولَم أجدك منفعلاً يومها ولا غاضباً) .. هذا نموذجٌ للمعارك الصغيرة التى يُساقُ إليها المصريون بعيداً عن معاركهم الحقيقية .. يفرغون فيها شحنات غضبهم ويهنأون بالانتصار فيها .. حيث النصر والهزيمة سواء .. أو كما قال الراحل أحمد بهاء الدين (فى المعارك الصغيرة .. الرابح والخاسر سِيَّان).
تمتلئ الساحة الآن بالكثير من هذه المعارك المُخَّدِرة الصغيرة .. يهرب البعض إليها بعيداً عن هزائمهم الكبيرة .. معارك بلا تكلفة .. وانتصاراتٌ بلا ثمن ..
معارك يَنطبق عليها قول الشيخ المراغى فى الأربعينات (لا ناقة لنا فيها ولا جمل) .. لكنه على الأقل كان يتحدث عن حربٍ عالميةٍ بامتداد الكرة الأرضية .. لا عن خلافٍ مكانه الطبيعي محكمة زنانيرى.
نموذج آخر .. نفس الثرى يخترق القوانين (أو تُختَرَقُ له) ويشترى الذِمم جهاراً نهاراً .. ويُمَّوِل حملة لاعبٍ شهيرٍ لرئاسة نادٍ بستة ملايين جنيه .. فلا تثور ثائرة أحد ولا يتحرك جهازٌ واحدٌ فى دولةٍ لم تترك معارضاً إلا واتهمته بالتمويل الأجنبى .. بل ويتسامح الجميع مع إهدار هذا اللاعب للمال العام فى وكالة الإعلان الحكومية التى كان من قياداتها قبل أعوام .. وبدلاً من أن يشتبك المصريون فى معركة كبيرةٍ حقيقيةٍ مع رُعاة هذا الفساد المزدوج .. فساد المُمَّوِل والمُمَّوَل .. يُستدرجون إلى معركةٍ صغيرةٍ بين فاسدٍ وفاسد .. معركة سهلة يُختزَلُ فيها الكفاحُ فى هتافٍ وسبابٍ على ألسنة عددٍ من المشجعين .. لم نسمع لهم هتافاتٍ ولا صوتاً للدفاع عن لاعبٍ شهيرٍ آخر لم يَفسَد ولم يسرق .. بل حتى لم يُعارض (وإن كان لم يؤيد) فصودرت أموالُه ووُضِع على قوائم الترقب واتُهِم بالإرهاب .. إذ ما أيسر وألطف أن تنحاز فى معركةٍ صغيرةٍ مع فاسدٍ ضد فاسد .. من أن تنحاز فى معركةٍ حقيقية مع مظلومٍ ضد ظالم .. الأولى بلا تكلفة (بل قد تكون فيها فوائد) .. أما الأخيرة فباهظة التكاليف .. لا يقدر عليها إلا أولو العزم.
وتكتمل الثلاثية غير المقدسة برئيس نادٍ آخر .. نال الرضا السامى بالتطاول على ثوار يناير .. فأمن العقوبة وفُتِحت له القنوات المغلقة .. وبدا وكأنه أخذ تصريحاً بسب وقذف كل المصريين (إلا الحاكم طبعاً) .. وأصبح فوق القانون فعلاً لا مجازاً .. فتحدى القضاء والنظام العام .. وأقسم (وبَرَّ بقَسَمِه) ألا يسمح لنائبٍ أن يحل محل ابنه فى البرلمان وهو ما حدث فعلاً رغم حكم القضاء.
لم تنشب أى معركةٍ حقيقية حول أىٍ من كوارث الرجل المذكورة .. لأنها معارك تضع صاحبها حتماً فى مواجهة السلطة التى ترعاه .. وهى مواجهةٌ مكلفة .. لكن لا مانع من الاشتباك معه على أرضية التعصب الكروى بين جماهير الناديين .. ففيه تنفيسٌ وتسليةٌ للجماهير .. وراحةٌ للسُلطة .. فالتعصب لنادٍ أسهل من التعصب لوطن.
هكذا تنتقل مصر فى السنوات الأخيرة بين العديد من هذه المعارك الصغيرة .. بعيداً عن معاركها الواجبة .. المشكلة أنها لا تلغى المعارك الكبيرة .. هى فقط تؤخرها .. فهى آتيةٌ حتماً .. لكن التأخير يفاقم الخسائر .. خسائرنا.
القاهرة- ١ أكتوبر ٢٠١٨