أن يحبس الرئيسُ قائدَه السابق دونما خطأٍ يستوجب الحبس .. ويشترط إمعاناً فى الإذلال أن يكتب استرحاماً للإفراج عنه .. فذلك يندرج فى عُرف الكثيرين (لا سيما من العسكريين) تحت باب الخِسَّة والنذالة .. فما بالنا وهذا القائد كان رئيسَ أركان القوات المسلحة.
هناك حزمةً من القِيَم والضوابط التى يكتسبها العسكريون ويتشربونها وتصطبغ بها تعاملاتهم دون أن يدروا .. كالانضباط .. والحسم .. واحترام الأقدمية .. واحترام الأقدمية لا يعنى تقديسها .. وإنما يعنى إطاراً للتعامل متعارفاً عليه فى الشكليات والإجراءات .. فالأحدث يلى الأقدم فى الوقوف أو الجلوس أو ركوب السيارة .. مهما كانت مكانة الأحدث .. ويُراعَى ذلك حتى عند محاسبة المخطئ .. بدءاً من (التدوير للمكتب) .. مروراً بإجراءات المحاكمة وتشكيلها .. حتى قرار الإدانة الذى يصف المُدان المحكوم عليه بالسيد .. وليس المدعو أو المجرم.
من إبداع أحمد فؤاد نجم أن معظم أشعاره تظل صالحةً لكل العصور .. وتحس وكأنه قد كتبها للتَوِّ عن واقعةٍ بعينها .. من ذلك هذه الأبيات الرائعة ..
الغدر لَمَّن حَكَم صَبَح الأمان بقشيش.
والندل لَمَّا احتكم يقدر ولا يعفيش.
والحُر مهما انحكم للندل ما يوطيش.
وكأنه كان يصف ما فعله الرئيس (مبارك) مع قائده السابق رئيس أركان القوات المسلحة (سعد الدين الشاذلى) .. كان الشاذلى هو القائد الحقيقى لنصر أكتوبر المجيد الذى نحتفل به هذه الأيام .. كان قائد القادة بمن فيهم مبارك نفسه .. وغادر مصر على خلافٍ مع السادات على اتفاقية كامب ديفيد .. فلما تولى مبارك عاد الشاذلى ظناً منه أن ليس بينه وبين مبارك خصومة .. لم يكن يدرى أن (الندل احتكم) فصَّدَقَ على حبسه 3 سنواتٍ وقُبِض عليه فى المطار وأودِع السجن الحربى .. وأرسل إليه من يعرض عليه التوقيع على التماسٍ لمبارك .. لكن (الحُرّ مهما انحكم للندل ما يوطيش) .. فرفض وبَقى فى السجن إلى أن خرج دون استرحامٍ بعد نصف المدة.
لم يفعل الشاذلى لوطنه إلا ما يستحق التكريم .. ليس فى حرب أكتوبر فقط وإنما فى كل حروب مصر .. لكن هذا الابن المصرى البار الذى لم يسرق ولَم ينهب ولَم يدلس حُرِم من التكريم .. وشاهد بعينه كيف نُسِب نصره زوراً لغيره .. وشُطِبت صورته من الإعلام والبانوراما كأنه لم يكن من قبلُ شيئا .. وحُرِم من المعاش وعاش على إرثٍ له إلى أن صعدت روحه لبارئها قبل سقوط ظالمه بيوم.
وقبل أن يخرج علينا من يقول إنه حكم العسكر .. سيجد كلٌ منا إذا قَلَّبَ فى ذاكرته أن ما حدث من الرئيس تجاه قائده السابق صورةٌ طِبق الأصل مما يحدث فى كل القطاعات دون استثناء .. أليس ذلك ما حدث فى مجال الصحافة مثلاً من إبراهيم سعدة (شفاه الله) مع العملاق محمود عوض (رحمه الله)؟ .. فعندما (احتكم) سعدة على أخبار اليوم فى ظروفٍ تقترب من ملابسات فيلم (معالى الوزير)، كان محمود عوض هو نجم أخبار اليوم الأول الذى ينتظر القرّاء مقاله الأسبوعي على الصفحة الأخيرة بأكملها .. فانتزعه سعدة من الصفحة الأخيرة إلى عمودٍ داخلىٍ صغير .. ثم ما لبث أن منعه من الكتابة تماماً .. وأتاح المساحة لمحدودي الموهبة .. ثم أحاله للمعاش وطرده من مكتبه فى يوم بلوغه الستين دوناً عن كل نواب رئيس التحرير الذين تجاوزوا جميعاً هذه السن ووصل بعضهم إلى السبعين .. تَقَّبَل محمود عوض الأمر مندهشاً، إذ لم تكن هناك خصومةٌ بينهما (من جانبه على الأقل) .. لم يكن كاتبنا النبيل يعرف أنه لا مكان للكبار فى زمن الاحتفاء بالصغار .. إلى أن مات بعدها بسنواتٍ وحيداً فى شقته.
لو استرجع كلٌ منا شريط ذاكرته سيجد أنه مر بوقائع مشابهة فى كل موقع عملٍ .. سواء كان شركةً أو مؤسسة أو صحيفة أو فضائية أو جامعة أو كليةً أو حتى مدرسة .. على الأقل فإن سعدة كان موهوباً .. بينما معظم الحالات المشابهة (احتكم) فيها معدومو الكفاءة والأصل .. وبمجرد أن يصعد للكرسي من لا يستحقه، يتفنن فى إخراج مكنون حقده وأمراضه لتدمير الأكفأ والمستحق .. لا سيما إذا كان من أصحاب الفضل عليه .. أو كان كبيراً بدرجةٍ تُذَّكِرُه بضآلته.
مأساة مصر مع هذه النماذج ليست فقط فيما تتركه من ندوبٍ فى أرواح الطيبين المغدورين من الموهوبين من أبنائها .. ولكن فى أنها تحرم الوطن دائماً من فرصة الاستفادة من ذخيرته الحية من الأكفاء فيظل لا يبارح مكانه بل يتقهقر للخلف.
هذا المرض المصرى المزمن لا علاقة له بحُكْم العسكرى .. ولا المدنى .. إنه حُكْمُ النذل.