لقد جُنَّ الرئيس .. الرجل يهذى فعلاً .. ويهزل فى موضع الجد .. المشكلة أنه الحاكم الفرد المطلق .. الذى اختصر مؤسسات الدولة فى شخصه .. فما العمل؟ .. كم مرة تردد هذا السؤال بامتداد التاريخ والجغرافيا ؟! .. والسؤال طبيعىٌ .. فالرئيس بشرٌ .. يمرض ويهرم ويموت .. فى البلدان الديمقراطية لا محل لهذا السؤال أصلاً .. إذ أن الإجابة محددةٌ سَلَفاً بإجراءاتٍ كريمةٍ يُعامَل فيها الرئيس بما يليق به كمواطنٍ (قبل أن يكون رئيساً) ويتم عزله دون أن يتأثر كيان الدولة.
أما فى بلادنا المبتلاة بالديكتاتورية .. حيث الرئيس إلهٌ أو نصف إله .. لا يمرض ولا يشيخ ولا يموت .. ملتصقٌ بكرسى العرش لا يغادره إلى أن تأكل دابة الأرض منسأته (وتأكل معها قواعد الدولة) .. فإن السؤال فى حد ذاته قضية أمن دولة.
وكما اعتدنا فى مواقف كثيرة .. كانت الإجابة (تونس) .. التى تعرضت لنفس المِحنة لكنها قدمت حلاً لم يسبقها إليه أحدٌ.
كان الحبيب بورقيبة من زعامات معارك الاستقلال وكان يُسَّمى بالمجاهد الكبير.. ودفع الثمن اعتقالاتٍ ونفياً إلى أن حصلت تونس على استقلالها واختير كأول رئيسٍ لها سنة ١٩٥٧.. وتزوج وسيلة بنت عمار وهى مناضلةٌ شابةٌ أيضاً خاضت معارك الاستقلال وسُجِنت .. لكن هذا الرئيس المدنى (محامٍ) مارس حكماً ديكتاتورياً فَجَّاً (وهو ما يؤكد أن صفة الحُكم الديكتاتوري .. عسكرياً كان أو دينياً .. تُنسب إلى طبيعة الممارسات لا إلى قُبَّعَة الحاكم) .. وتَمَّيَز بالشراسة حيث أعدم الكثيرين من خصومه .. أخطأ الرجل وأصاب .. ومع تقدمه فى السن وانفراده التام بالسلطة تزايدت القرارات والتصرفات الغريبة .. وفى الحادية والسبعين من عمره (سنة ١٩٧٤) أصدر قانوناً يضمن استمراره رئيساً مدى الحياة .. وعندما بلغ الرابعة والثمانين ووفقاً لما نُشر لاحقاً (غدت القوى العقلية لرئيس الدولة محدودةً جداً، إذ ينسى كثيراً، وتعتريه موجاتٌ من الغضب، ولا تتعدى قدراته على الفهم ما يملكه طفلٌ صغير) .. وهنا جاء الحل الفريد .. إنقلابٌ طبى (لا عسكري) .. بأورنيك عيادة (وليس بدبابة).
حيث قام الجنرال زين العابدين بن على بإحضار سبعة أطباء (بينهم اثنان من العسكريين) إلى مبنى وزارة الداخلية (وليس إلى حيث يوجد المريض) وطلب منهم تحرير تقريرٍ طبى يثبت عدم قدرة بورقيبة على ممارسة مهام الرئاسة .. وبناءً عليه تم عزله والحجر عليه ووضعه قيد الإقامة الجبرية .. صحيحٌ أن خليفته بن على سار على نفس الدرب الديكتاتوري وظل فى الحكم أربعةً وعشرين عاماً إلى أن عزله الشعب فى سن الخامسة والسبعين .. لكن تلك قصةٌ أخرى .. أما الانقلاب الطبى فقد بقى حلاً تونسياً فريداً فى عالمنا الثالث .. لم يحدث من قبل ولا من بعد.
لا مشكلة (مهما بلغت تعقيداتها) بلا حل .. ولا سؤال (مهما بلغت صعوبته) بلا إجابة .. ولا معضلة بلا مَخرَج .. إننى أغبط تونس.
)القاهرة- ١ أغسطس ٢٠١٨(
منطقة المرفقات