تتوّج الانتخابات العامة التركية في 24 يونيو الجاري عدداً من السباقات الانتخابية التي يمكن أن تساعد الرئيس رجب طيب أردوغان على تثبيت سيطرته. ومن المتوقَّع أيضاً أن تكون الانتخابات المقبلة من السباقات الأكثر تقارباً حتى تاريخه. على الرغم من عدم التماسك في استطلاعات الرأي بسبب التحيّز السياسي (فغالباً ما يكون منظّموها على ارتباط بحزب معيّن)، ومن أن المغتربين الأتراك الموالين لحزب العدالة والتنمية في أغلبيتهم غير ممثَّلين في هذه الاستطلاعات، إلا أن التوقّع هو أنه لن يحقّق أي مرشح للرئاسة فوزاً مطلقاً.
في هذه الحالة، سيخوض المرشحان الأساسيان، اللذان يُرجَّح أن يكونا الرئيس أردوغان ومحرم إنجة، منافسه الأساسي من حزب الشعب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي، جولةً ثانية. في الاستطلاعَين اللذين أجرتهما شركة “رمريس” التركية المتخصصة باستطلاعات الآراء، حول جولة ثانية محتملة في الانتخابات الرئاسية، تَقدّمَ أردوغان بفارق 0.5 نقطة فقط، حاصداً 42.3 في المئة من مجموع الأصوات كحد أقصى، في مقابل 41.8 في المئة لإنجة. يمكن أن تؤدّي هذه الهوامش الضئيلة إلى الدفع باتجاه ممارسة التزوير الانتخابي من جانب الحكومة التي، وعلى الرغم من التزامها تاريخياً بمظهر من مظاهر الديمقراطية الانتخابية النزيهة، بدأت تكشف عن استعدادها للابتعاد عن هذه المبادئ.
في الاستفتاء الدستوري الذي أُجريَ في العام 2017 وأرسى أسس تحويل المنظومة البرلمانية التركية إلى نظام رئاسي تنفيذي، فاز خيار الـ”نعم” بـ51.4 في المئة من الأصوات. بيد أن المعارضة، وكذلك التقرير النهائي الصادر عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا حول الاستفتاء، انتقدا النتائج لأن الحكومة احتسبت 1.5-2.5 مليون ورقة اقتراع غير مختومة ضمن الأصوات. بحسب الإجراءات المعيارية، تقوم لجان صناديق الاقتراع المحلية بختم جميع أوراق الاقتراع مسبقاً صبيحة فتح الصناديق.
على الرغم من أنه من الممكن نظرياً أن تنسى السلطات المحلية ختم أوراق الاقتراع في بداية اليوم الانتخابي، وبالتالي يمكن أن يدلي ناخبون بأصواتهم من دون أن يتم تسجيلها، إلا أن ذلك يعني فعلياً أن جميع الأعضاء السبعة في لجنة صندوق الاقتراع في الدائرة المعنية نسوا بصورة متزامنة إنجاز واحدة من المهام الأساسية. كانت القوانين التركية تنصّ في تلك المرحلة على أن أوراق الاقتراع غير المختومة تُعتبَر لاغية. لكن وفقاً لرئيس اللجنة العليا للانتخابات، سعدي جوفن، احتُسِبت أوراق الاقتراع غير المختومة لأنها “لم تكن مزوّرة”. ربما أدّى احتساب أوراق الاقتراع غير المختومة، وعددها 1.5 إلى 2.5 مليون ورقة، إلى تغيير نتيجة الاستفتاء في العام 2017.
لكن في انتخابات 24 يونيو، سوف يُسمَح رسمياً باحتساب أوراق الاقتراع غير المختومة. لقد جرى تقنين هذه الممارسة في إطار سلسلة من الإصلاحات الانتخابية بموجب القانون 7102 الذي أقرّه مجلس النواب في 13 آذار/مارس 2018 بعد سجال محتدم تحوّل إلى عراك بالأيادي. على الرغم من أن القانون أثار انتقادات واسعة من المعارضة، إلا أن وسائل الإعلام الدولية تجاهلت التغييرات إلى حد كبير. يتيح القانون 7102، على وجه التحديد، لرئيس كل واحدة من لجان صناديق الاقتراع، وعددها 180064 – وهذه اللجان هي المؤسسة الانتخابية الأدنى رتبة والمسؤولة عن فرز الأصوات – أن يُقرّر احتساب أوراق الاقتراع غير المختومة أو عدم احتسابها.
يُفسِح ذلك في المجال أمام رشوة رؤساء لجان صناديق الاقتراع وترهيبهم، لا بل أكثر من ذلك، تُوكَل رئاسة هذه اللجان إلى موظّفي الخدمة المدنية حصراً، بعدما كان رؤساؤها يُختارون سابقاً من قبل أشخاص تعيّنهم الأحزاب السياسية لهذه الغاية. لا يشكّل ذلك عائقاً أمام الانتخابات النزيهة في الدول حيث يتصرّف موظفو الخدمة المدنية كامتداد تكنوقراطي مستقل لأجهزة الدولة. لكن في تركيا، استغلّ المسؤولون الحكوميون في السابق مناصبهم لخوض حملات باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم، ويمكن أن يُعيدوا الكرّة. يعني ذلك فعلياً أنه لم تعد هناك ضوابط حقيقية تضمن إتمام المستوى الأهم من العملية الانتخابية من دون غش وتزوير.
فضلاً عن ذلك، يُجيز القانون 7102 أيضاً لحكّام المحافظات الـ81، الذين يختارهم الرئيس بنفسه، أن يطلبوا من اللجنة العليا للانتخابات نقل مراكز الاقتراع أو دمجها في حال ارتأى المحافظون أنها خطوة ضرورية “لأسباب أمنية” وُضِع لها تعريفٌ مبهَم. في 28 مايو، طلب حكّام 19 محافظة ذات أكثرية كردية نقل صناديق الاقتراع في دوائرهم لدواعٍ أمنية، وقد وافقت اللجنة العليا للانتخابات على نقل العديد من الصناديق في 16 من هذه المحافظات.
يُشار في هذا الصدد إلى أن اللجنة لم توافق على طلبات مماثلة لنقل صناديق الاقتراع على مشارف الانتخابات النيابية في نوفمبر 2015، على الرغم من استفحال النزاع ضد حزب العمال الكردستاني وجناحه الشبابي المعروف بحركة الشباب الوطنية الثورية في تلك المرحلة، ومع العلم أيضاً بأن حصيلة القتلى في الأشهر الثلاثة التي سبقت تلك الانتخابات كانت أعلى بنسبة 300 في المئة بالمقارنة مع الحصيلة في الأشهر الثلاثة التي سبقت الانتخابات الراهنة.
ليس مفاجئاً أن غالبية الصناديق التي سيتم نقلها إلى مراكز أخرى هي في مناطق ذات أكثرية كردية. لقد أشار العديد من الخبراء والصحافيين والمنظمات غير الحكومية إلى أن الأكراد سيكونون صانعي الملوك في هذه الانتخابات، لأنهم يميلون كقاعدة ناخِبة إما باتجاه حزب العدالة والتنمية المحافظ اجتماعياً وإما باتجاه حزب الشعوب الديمقراطي المناصر للأكراد. وفقاً لأيهان بيلجن، المتحدث باسم حزب الشعوب الديمقراطي، ثمة اتجاهٌ لنقل صناديق الاقتراع بعيداً من “القرى حيث يحصل حزب الشعوب الديمقراطي على حصّة كبيرة من الأصوات، أي نحو 75-80 في المئة… على النقيض، في القرى التي ستُنقَل إليها صناديق الاقتراع، يحصل حزب العدالة والتنمية على 75-80 في المئة من الأصوات”. يعني ذلك أن نقل الصناديق سوف يسهّل على ناخبي حزب العدالة والتنمية الوصول إلى مراكز الاقتراع، ما يؤمّن للحزب نتيجة نسبية أفضل في منطقة الجنوب الشرقي ذات الأكثرية الكردية.
بيد أن اللجنة العليا للانتخابات، التي تتعرض لضغوط متزايدة من حزب العدالة والتنمية، تعتبر أن الاعتراض على نقل صناديق الاقتراع ليس سوى ضجيج سياسي من المعارضة، فالصناديق نُقِلت إلى مراكز لا تبعد أكثر من 5 كلم (3 أميال) عن موقعها الأصلي، ونصفها نُقِل إلى مراكز تبعد أقل من 2.5 كلم (1.5 ميل). لكن إلى جانب اضطرار الناخبين إلى قطع مسافة أطول بعض الشيء للوصول إلى المراكز الجديدة، يحول نقل الصناديق دون تمكُّن مراقبي الانتخابات من مقارنة أوراق الاقتراع بالقوائم المحلية للناخبين المسجّلين. يقول عبدالله بوزكرت، وهو صحافي تركي يعيش في المنفى ورئيس مركز ستوكهولم للحرية، إن ذلك يحرم “المعارضة من وسيلة عملية للتدقيق بسهولة في ما إذا كان يتم استخدام أوراق اقتراع مكرَّرة أو مزوّرة في مناطق معيّنة”. علاوةً على ذلك، وكما ورد في التقرير الصادر عن مجموعة الأزمات الدولية في 13 يونيو، يمكن أن يؤدّي نقل مراكز الاقتراع إلى ثني الناخبين عن التصويت لأنهم قد يتردّدون في التوجه إلى قرية مجاورة مرتبطة بعشيرة كردية يعتبرونها معادية لهم، فقد نقل التقرير عن أحد أبناء شانلي أورفة قوله: “غالب الظن أن كبار القوم أو زعماء العشائر لن يرغبوا في أن يتوجّه أبناء عشائرهم إلى هناك”.
وفقاً للجنة العليا للانتخابات، يطال نقل الصناديق 144000 ناخب، غير أن النائب مدحت سنجار من حزب الشعوب الديمقراطي يقول إن النقل سيؤثّر في 270000 ناخب. في الحالتَين، يمكن أن يمارس ذلك تأثيراً أساسياً على سباق رئاسي يبدو أنه سيكون متقارباً جداً، ناهيك عن التأثير على حظوظ حزب الشعوب الديمقراطي.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن حزب الشعوب الديمقراطي يتأرجح عند حدود 10 في المئة من الأصوات، وهي العتبة التي يجدر به تجاوزها للفوز بمقاعد في البرلمان. حتى لو كانت الانتخابات حرّة ونزيهة بالكامل، قد لا يتمكّن الحزب من بلوغ هذه العتبة، لا سيما وأن حوالي 500000 عامل موسمي يشكّل الأكراد قسماً كبيراً منهم، يُقيمون في الصيف خارج الدوائر الانتخابية حيث هم مسجَّلون. يُضاف إلى ذلك تأثير نقل الصناديق على نسبة الاقتراع، وإمكانية حدوث تزوير انتخابي، ما يُسبّب مزيداً من الالتباس بشأن حظوظ حزب الشعوب الديمقراطي. إذا لم يتمكّن الحزب من كسب العدد الضروري من الأصوات، فسوف يمهّد ذلك الطريق أمام تحقيق حزب العدالة والتنمية أكثريةً يُرجَّح أن تكون مطلقة في مجلس النواب، ما يؤدّي إلى تفلُّت رئاسة أردوغان إلى حد كبير من مختلف الضوابط.
باختصار، من شأن نقل صناديق الاقتراع، إلى جانب السماح باحتساب أوراق الاقتراع غير المختومة، أن يسمح لحزب العدالة والتنمية بالتلاعب بالنتائج لمصلحته – هذا فضلاً عن اللجوء إلى وسائل أخرى مثل تغيير التركيبة الإثنية لبعض المناطق ذات الأكثرية الكردية في الجنوب الشرقي، واستخدام الترهيب. عملياً، يُثير ذلك شكوكاً حول مدى الإنصاف وتساوي الفرص في الملعب الانتخابي التركي، إنما أيضاً حول شرعية الديمقراطية الانتخابية التركية ككل.