أكتب من واقع خبرتي كأستاذ جامعي مدة تزيد عن الأربعين عاما . واقع التعليم الجامعي متدهور للغاية لأسباب متنوعة ليست منها مجانيته . سوء حال الخريجين وبطالتهم وعجز الكثيرين عن القيام بعملهم بكفاءة وتدهور مستوي طلاب وأبحاث الدراسات العليا كل هذه مؤشرات علي تدهور التعليم الجامعي .
تعلمت شخصيا من المرحلة الابتدائية إلى نهاية المرحلة الجامعية بالمجان تماما .كانت الدولة في مراحل التعليم قبل الجامعي تقدم لنا وجبات غذائية وفي كل مراحل التعليم كانت تقدم لنا إمكانات ممارسة النشاط الثقافي والرياضي والاجتماعي الذي يجعل العقل السليم المتسائل في الجسم السليم المتعافي.قد يقال أن عدد سكان مصر في هذا الوقت لم يكن كبيرا .ولكن ميزانية مصر ومواردها وقتها لم تكن بالضخامة التي عليها الآن.
لا أظن أن ميزانية التعليم الجامعي ترهق الدولة المصرية التي درجت علي إنفاق مواردها في مصارف أقل ما يقال عنها أنها مثار تساؤلات جدية .ثم إن التعليم والصحة والسكن والثقافة هي واجبات على الدولة الحديثة وفقا لعهود حقوق الإنسان التي صدقت عليها مصر وليست مجرد أعباء علي الدولة تضجر منها كل حين .
الدولة لا تنفق أموالا كثيرة على التعليم النظري الذي تحشد في مدرجاته عشرات الآلاف ولا يكلفها إلا المبني والميكروفون وجنيهات قليلة تقدمها رواتب للأساتذة .أما الكليات العملية فتعاني من نقص شديد في المختبرات والمعامل وفي الوسائل التعليمية .البنية الأساسية للجامعات من مكتبات ومعامل وتكنولوجيا توقفت الدولة من عشرات السنين عن دعمها.
الجامعة هي أستاذ وطالب وبنية أساسية ومناخ للحرية الأكاديمية يسمح بالإبداع. كثير من شباب الأساتذة اليوم الذين حصلوا علي درجاتهم من الجامعات المصرية تعلموا في ظل منظومة فاسدة . أساتذة جيلي والأجيال السابقة وبعض من لحقونا تلقوا تعليمهم ما بعد الجامعي في جامعات الخارج وعادوا ومعهم تقاليد الجامعات العالمية. الإدارة العامة للبعثات التابعة لوزارة التعليم العالي كانت تبعث كل عام مئات المبعوثين إلى أوروبا وأمريكا وروسيا وغيرها تنفق عليهم الدولة دون ضجر أو تبرم .الآن أصبحت درجات الماجستير والدكتوراة التي تمنحها بعض الجامعات تحيط بها التساؤلات، وأصبحت ترقيات أعضاء هيئة التدريس وتقييم إنتاجهم العلمي تحيط بها المجاملات .
التوسع في إنشاء الجامعات الإقليمية دون الإعداد الجدي أدى لمزيد من التدهور .تدخل الأمن في اختيار رجال الجامعة والرقابة عليهم أدى إلى انزواء الكفاءة والحرية وأصبح الحرص علي كرسي الوظيفة أهم من الحرص على التقدم العلمي .تدهور أجور أساتذة الجامعة دفعهم إلى البحث عن الدخل المادي في مصادر خارجية بافتتاح المكاتب الاستشارية والعيادات أو بيع الكتب للطلاب أو إعطاء الدروس الخارجية أو كثرة الانتدابات لجامعات أخري أو غير ذلك .لن أحكي عن حالات محددة بأسماء محددة للفساد الجامعي مذكورة في أضابير الجامعات وأجهزة التحقيق .
الطلاب الذين يلتحقون بكليات الجامعة جاءوا من نظام تعليم قبل الجامعي فاسد يقوم علي الحفظ والتلقين وقتل الإبداع والابتكار، كثير من أوائل الثانوية العامة تعثروا بعد التحاقهم بالجامعة، ما يدرسونه هو ما ينقله أساتذتهم نقلا مشوها عن كتب أساتذة الأجيال السابقة دون تطوير أو ابتكار وأخشى أن أقول ومع كثير من التشويه .
انتشرت طبقية التعليم الجامعي حتى داخل الجامعات الحكومية .كثير من الكليات وفي سبيل الحصول علي دخل مادي درجت علي إنشاء أقسام للغات عالية المصروفات .أشك أن أساتذة وطلاب بعض هذه الأقسام يجيدون اللغة التي يدرسون بها .هناك عقد غير مكتوب بين الطلاب والجامعات : سندفع لكي ننجح بتفوق ونتبوأ بعد ذلك المناصب المرموقة في الدولة .
بعض الطلبة الراسبين يقيمون دعاوي قضائية لإعادة تصحيح أوراقهم .أتعاب إعادة تصحيح الورقة الواحدة للأستاذ المصحح حوالي ألف جنيه مصدر جديد للدخل للأساتذة والتميز للطلاب أبناء الأثرياء ذوي الحظوة .
طبقية أخرى في التعليم الجامعي تتمثل في الجامعات الأجنبية التي انتشرت كالجراد في مصر ويدفع فيها الطلاب عشرات الألوف من الجنيهات.في زماننا كانت الدولة لا تعادل الدرجة العلمية التي تمنحها الجامعة الأمريكية بدرجات جامعات الدولة .أشك الآن أن مستوي خريجي الجامعات الأجنبية يفضل كثيرا مستوي التعليم الجامعي الحكومي. ولكن خريجيها هم أولاد الناس .وزير اقتصاد سابق في عصر مبارك دعا في مجلس الشعب إلي عدم ذكر أولاد الناس بسوء.
البنية التحتية للجامعات الحكومية بنية رثة .المكتبات والمعامل والمختبرات والوسائل التعليمية حالها لا يسر أحدا .
هل يكون حل كل هذه المشكلات بمجرد إلغاء المجانية ؟ بالطبع لا .لن أتحدث عن دول متقدمة تعلم أبناءها في جامعاتها مجانا مثل فرنسا وألمانيا والسويد ، ولكن أتحدث عن دول من العالم الثالث مثل تونس ومالطة والمغرب ، ولن أتحدث عن دول قليلة في عدد السكان ولكن أتحدث عن دول ذات كثافة سكانية عالية مثل الهند والصين ، التعليم العالي في كل هذه الدول مجانا.
المشكلة ليست في المجانية ولكن في إعادة هيكلة النظام التعليمي بأكمله، وإليكم بعض المقترحات القابلة للنقاش :
١- إعادة الاعتبار للتعليم الفني قبل الجامعي وربطه باحتياجات مؤسسات خطة التنمية .قبل ذلك لابد أن تكون هناك خطة تنمية واضحة ورفع أجور خريجي التعليم الفني الأكفاء، وربط هذا التعليم بسوق العمل.
٢- تطوير نظام التعليم العام .ولا أريد أن أخوض في حديث التابلت وكثافة الفصول والـ ١٣٠ مليار ومهلة السنوات العشر، وكل ما أطلبه أن نخرج من الأدراج دراسات عبد العظيم أنيس وحامد عمار ومؤتمرات التطوير المتعددة ونطرحها للنقاش العام وأن نكون واسعي الصدر فالأمر يخص مستقبلنا ،
٣- جعل بقاء عضو هيئة التدريس في وظيفته قبل درجة أستاذ رهنا بالإنتاج العلمي وفقا لتقييم يشترك فيه عنصر دولي
٤- اعتماد التأليف الجامعي المشترك المحكم دوليا وحظر بيع كتب الأساتذة حظرا تاما ،
٥- إعادة النظر في لجان ترقية أعضاء هيئة التدريس ومشاركة ممثلين من الجامعات الأجنبية فيها واشتراط النشر الدولي في دوريات محكمة .
٦- مضاعفة مرتبات أعضاء هيئة التدريس خمسة أمثال على الأقل على أن يحظر عليهم العمل بجهات خارجية إلا في المشروعات القومية .
٧- تحصيل رسم لتطوير التعليم قدره 10 جنيهات على كل مكاتبات الجمهور لأجهزة الحكومة على أن ينشأ لذلك صندوق تابع لمجلس مستقل يسمي مجلس تطوير التعليم.
٨- إلغاء كافة الجامعات الأجنبية في مصر ودمجها في الجامعات الحكومية بعد تطويرها ويمكن كخطوة مرحلية إخضاع الجامعات الأجنبية للإشراف الإداري والمالي والعلمي للمجلس الأعلى للجامعات، وإلغاء كافة أقسام التعليم الأجنبي في الجامعات الحكومية، وجعل دراسة اللغات الأجنبية والمواد العلمية باللغات الأجنبية إلزاميا وجادا في الجامعات الحكومية.
٩- الحوار حول استحداث اختبارات للقدرات للطلاب طالبي الالتحاق بكليات الجامعة
١٠- حرمان الطالب من المجانية في حالة رسوبه عامين جامعيين
١١- دعم وتطوير البنية التحتية الجامعية وبنية الأنشطة
١٢- تحقيق الاستقلال الفعلي للجامعات ووقف التدخلات الأمنية في التعيينات والأنشطة الجامعية ،
ليس بإلغاء المجانية ينصلح حال التعليم